الأسطورة والشخصيات التراثية في شعر أدونيس
(الأسطورة في شعر أدونيس) بحث أدبي ونقدي للدكتورة رجاء أبو علي في شعر أدونيس وعلاقته بالأسطورة، فلا يمكن اقتحام الحقل الشعري المعاصر دون الإلمام بالرموز الأسطورية التي وظفها الشعراء في قصائدهم، ومنهم أدونيس الذي نقب في زمن الأساطير بحثاً عن فكر جديد وولادة جديدة، فقد تأثر أدونيس بواسطة مغامراته الفكرية وأحلامه الخصبة بالتحولات و التيارات الشعرية والفنية والفلسفية وأسس عليها في إنجازه الجديد.
اهتمت المؤلفة بالجانب المفهومي والتكويني والوظيفي للأسطورة، وبالحديث عن مفهوم الأسطورة ودلالتها (فهي إذن في المعاجم العربية بمعنى (الكتابة) أو (الأباطيل) أو (الأحاديث التي لا نظام لها) أو(الأقاويل المزخرفة والمنمقة) أو(تأليف ما لا أصل له)، وكلها تتفق في مخالفتها للأصول والمعتاد عليه،وبعدها عن الحقيقة واستنادها إلى مصادر خيالية من صنع البشر
ودارت المفاهيم الأولى حول مصطلحات منها: خيال – حقيقة – أو واقع وهم – حلم عقيدة،أو دين، تاريخ مقدس – رمز- شعر،قصة أو خرافة.
إن تداخل المفاهيم قد يعود إلى تطور المدلول للأسطورة أو نتيجة التباين في أشكال الأسطورة وأنواعها. فالأسطورة الطقوسية جعلت منها أداة للتعبير أو عقيدة أو ديناً. والأسطورة التاريخية حولتها إلى تاريخ، وأسطورة التكوين آلهتها إلى الخلق والتفسير والتعليل. ثم تحولت الأسطورة إلى رمز أو مجاز أو استعارة على أيدي الباحثين. فالأسطورة قبل كل شيء لغة وكلام ومنطوق وتعبير ساحر أذهلت العقول وحيرتها، ولغة الثورة التي أذكت القلوب وأججتها.
ويرى أدونيس أن وظيفة اللغة هي تغيير الواقع وتحويله وإعادة خلقه من جديد. وتؤكد نظرية ريكو أهمية الجانب اللغوي في الأسطورة، فهي تقول إن الأسطورة كانت نوعاً من اللغة الشعرية، اللغة الوحيدة التي كان الإنسان قادرا عليها في مراحل تطوره البدائي. وقد أدى ارتباط العناصر والمكونات الواقعية والأسطورية بعضهما ببعض، بطرق وأشكال ونسب مختلفة، إلى ظهور مختلف أنواع القص الخيالي التي انطلق عليها اسم الحكاية الشعبية أو الأسطورة أو الخرافة أو السيرة الشعبية أو الملحمة فوظيفة الأسطورة وظيفة كونية وجودية ودينية في آن واحد. كما أن عنصر القداسة أهم ما يميز الأسطورة ويفصلها عن غيرها من الأشكال الأدبية. وتتعلق رمزية الأسطورة بقضية اللغة والدال والمدلول ومدى تطابق الفكرة والصورة. وقد استخدم الأدب هذه الرموز الأسطورية استخداماً مشحوناً بطاقة انفعالية جعل منه مادة خصبة يرسم بها ما لم تستطع اللغة العادية أن تقوم به، فاستعمل الشعراء رموز الديانات والحكايات والخرافات والأساطير عند الشعوب السامية والهندية واليونانية والأوربية. فتوظيف الأسطورة في الشعر المعاصر هو استحضار لبنية جمالية.
ويرى إحسان عبا س أن استغلال الأسطورة في الشعر العربي الحديث من أجرأ المواقف الثورية فيه، واستخدام الرمز الأسطوري والتاريخي من أهم إنجازات القصيدة العربية المعاصرة. وأدونيس كما تقول الباحثة رجاء أبو علي مافتئ يطالب في شعره ونثره بالإبداع والخلق والكشف عن علاقات جديدة دائماً.وجوهر الإبداع يكمن في التباين لا في التماثل. فأدونيس هو ابن تراثه، إنه الذات المعاصرة التي جمعت التراث وصهرته، لتكون هوية معاصرة تحمل كل ما يملكه من لغة ورؤى وأحلام ومغامرات تبدع الوجود في الشعر.
وقد اختار الأسطورة ليبتعد عن عقلانية العلم، وعن الوعي العقلي الذي يناقض الفن. فهو لم يسرف في استخدام الأساطير ولم يلج طرقها الملتوية دون وعي بخطورتها وسلبيتها، فنجده يوظف الشخصيات التراثية غير الأسطورية لتكوين شخصيات أسطورية، كشخصية(مهيار) التي استمدها أدونيس من الموروث الأدبي، وشخصية عبد الرحمن الداخل (صقر قريش).
وتحكي لنا قصيدة (موج-1) قصة خلق أدونيس وسبب تألهه وكيف ولد. وتبدأ الحكاية من أساطير الأولين أي من الزمن اللا محدود، اللازمن، أو زمن البدء المقدس. إنها بذرة الحب المقدسة التي تركبت من عناصر الكون الأربعة فانفطرت عن شجرة سال منها ما هو شفاء ورحمة، وتمخضت عن إله عطّر الكون بأريج الحكمة والقوة والأصولية والعقل.
(في أساطير الأولين /أنّ أدونيس الذي تأله بالحبَ أو الذي توله فتأله،/خُلق في الشعر ومنه: /وُلد مع الضوء والهواء / مع الماء والنباتات والعشب والزّهر/والبقية من أشياء الخالق).
كما وظف أسطورة (تموز) فالحياة الخالدة لن تكون من نصيب الجميع، وحركة الخصب والانبعاث سيقودها بطل أسطوري أو إله مقدس أو مسيح مصلوب أو نبيّ مفرد، يسكب دمه فداءً للبشرية، ويروي به شجرة الإنسانية.
وكان لصور (تموز) العاشق نبرة الحلم المضيء، وصدى النبع الثائر، ووجه السماء المنعكس في مياه الجداول والأنهار،إنه رقصة الربيع ونشيد الجداول والأنهار ونشوة الحب والولادة:
(تموز مثل حمل – مع الربيع طافرُ/ مع الزهور والحقول والجداولِ / النجميةِ العاشقة المياه /تموز نهر شررٍ تغوص في قراره/ السماء. تموز غصن كرمةٍ / تخبئه الطيور في أعشاشها / تموز كالإله).
ويلجأ أدونيس إلى أسطورة (عشتار) و(جلجامش) مجسداً الصراع بشكل صريح في كتّان عشتار، وحرير نيويورك. وغطاء الكتان هو هدية (أوتو) إله الشمس وشقيق الإله إنانا، أو عشتار الذي وعد بتقديمه لإنانا كغطاء لفراش العرس الذي سوف يتم عليه لقاء أخته إنانا مع تموز. الكتّان هو رمز الحب واللقاء الأول بين العاشقين الذي يضمن الخير والتكاثر والإخصاب لمستقبل الأرض، هو فراش سيد الأسرار والأسطورة الأولى و الديانة المركزية الأولى، حيث تصالحت المتنافرات، هي النور ورمزها الشعلة الأبدية، وهي العتم والظلمة وما يخفى، هي القاتلة وهي الشافية، هي العذراء الأبدية.
(إذن / ماذا ستلبس هذه الليلة/ العاشقة الفقيرة الأرض/ كتّان عشتار، أم حرير نيويورك/ ومع أيّ سماء / تريدين أن ترقصي، أيتها العاشقة؟).
كما وظف أدونيس أسطورة أوزيريس، وهي أسطورة مصرية قديمة تعود إلى نحو عام 3000 ق.م. وشخصية (أوزيريس) المعقدة والمتناقضة تحمل صفات شديدة التناقض والغموض، فهو يمثل الإله الأعلى والخالق المتحكم في المصائر والقوة العظمى، والإرادة، والحكمة، والخلود. ونجده في نصوص أخرى يستدر الشفقة من ابنه لينقذه من عالم الموت ومما يعانيه من آلام في العالم السفلي. فقد مات ضحية اغتيال أخيه له فلم يستطع أن يدافع عن نفسه، أو يحول دون هلاكه إلى أن شبّ عن طوقه، وحلّ محله وأعاد العدل والخصب والنماء إلى الأرض، فاستطاع أن يثأر لأبيه، وينهي آلامه ومآسيه. (وضلت روح أوزيريس) تمر بالدورة الكاملة التي تمر بها الخصوبة الطبيعية، حيث يلحق الإله النشور ويبعث من جديد مع اخضرار سطح الأرض ونموّ محصولها الجديد:
(أوزيريس وأعضاءه المقطعّة / يدعو المحراث والفأس / البذارَ النطفة المطرَ والشمس الحية السمكة / الماء / وكل ذي جناحين ويقول حقاً، لا تجتمع التناقضات ولا تتعايش / إلا في كيان طبيعة إلهية).
وأسطورة أورفيوس من الأساطير اليونانية التي استفاد أدونيس منها في شعره، و (أورفيوس) كلمة مشتقة من الفينيقية، أي النور والشفاء. وأورفيوس شاعر وموسيقار وإله في الميثولوجيا الإغريقية، وهو ابن للحورية (كاليوبي) إحدى الموزيات وابن (أبولو) إله الموسيقا الذي منح ابنه القيثارة وعلمه العزف، كما تصور الأساطير الأوربية النبي الإله (أورفيوس) شاباً جميلاً ينشد ألحانه السحرية في البراري، فيأسر بها كل من حوله من أحياء وجمادات لا حياة فيها. فيسحر بموسيقاه الأشجار والصخور، ويروض الحيوانات الوحشية، وتنحرف الأنهار عن مجراها كي تتبعه. ويعرف أدونيس كيف يغرس أشجار حبّه على أرض الخلود وكيف يتلمس دروب الخلاص للبشر عابراً من غياهب الدّجى، يشرب الكون كي يعيد خلقه كما يشاء، يساهم في استمرار الوجود وسير الأكوان.
(أورفيوس النجُّي الكليم / لأساطير حبّيَ،للسفر المَّر في غيهب الدلالة/ من خطاه التي تتأرجح في شكّها، أتعلّمُ سرّ الهبوط الصعود / على درجات الجحيم / أتعلّمُ أن أشرب الكون حتّى الثمالة)
كما أستطاع أدونيس أن يوظف أسطورة سيزيف منطلقاً من الصمت الهائل المتفجر في صخرة حبُه،من صخرة أحزانه الكئيبة وجراحه المتفشية في كل عضو من أعضاء جسِده، من حجر التمرد والعصيان المشاكس للعواصف.
وقصيدة (تولد عيناه) تكشف عن واقع أسطوري سوداوي ينحدر عالمه من صخرة سلبية عبثية تدور كما المجنون دون هدف.ترى من يستطيع حملها إلى الأعلى؟ إنها تبحث عن جرأة سيزيف وشدّة بأسه وجهده الدؤوب في الإقدام وشجاعته في العمل.
(في الصخرة المجنونة الدائرة / تبحث عن سيزيف /تولد عيناه / في سفر يسيل كالنزيف / من جثة المكان).
وتميزت أسطورة الفينيق (العنقاء) الموظفة في شعر أدونيس بانتشارها الواسع في جميع الحضارات القديمة، إذ شاعت لدى معظم أساطير العالم بأسماء مختلفة، وأهم قصيدة وظف فيها أدونيس أسطورة (الفينيق) (البعث والرماد):
(فينيق، يا فينيق / يا طائر الحنين والحريق يا ريشة / ساحبة وراءها الظلام والبريق).
فمن الحلم انطلق أدونيس ينشد غربته الفنية والفكرية وأراد لها أن تحترق لتبعث في زمن آخر جديد، ولم تكن تجربته في قصيدته هذه شخصية بل كانت إنسانية، يريد للفكر أن يتحرر، ويرغب أن تتسامى الإنسانية وتتعالى.