زلزال اقتصادي وسياسي من العيار الثقيل..لماذا هبطت الأسعار.. وسعر البترول من يقرره..ومن الخاسر والرابح؟

 فلنبدأ أولاً بمن الذي يقرر أسعار النفط؟

بعض الهواة أو المغرضين أو الجهلة يذهبون شرقاً وغرباً في تفسيراتهم، والجواب بسيط: إنها الولايات المتحدة فقط لا غير. حتى سنة 1970 كانت الولايات المتحدة مصدّرة للنفط وأصبح إنتاجها يساوي استهلاكها فقط في تلك السنة. كانت تحافظ على فائض في مقدرة إنتاجها بحدود 3 ملايين برميل يومياً، تزيد الإنتاج متى أرادت تخفيض السعر، وتخفض الإنتاج عندما كانت تريد رفع السعر. فقدت هذه الميزة عندما أصبحت مستوردة للنفط من 1970 إلى يومنا هذا. وأُعطي هذا الدور المرجح كما يسمى إلى السعودية. (تُنسِّق) الولايات المتحدة مع العربية السعودية للسيطرة على أسعار النفط. عن هذا الدور قال أحمد زكي اليماني وزير النفط السعودي الأسبق مفتخراً:

(لتدمير دول أوبك الأخرى، يكفي أن ندفع إنتاجنا إلى أقصى طاقته، ولتدمير الدول المستهلكة، يكفي أن نخفض معدلات إنتاجنا)! ولكن يا ترى من يملك القرار الحقيقي لاستعمال (قوة التدمير) هذه؟

الجواب واضح كما جاء في دراسة مادة الحالة 096-383-9 في كلية الدراسات العليا للإدارة في جامعة هارفارد التي تقول: (السيطرة على سعر النفط وكمية إنتاجه هما من ركائز الأمن القومي الأمريكي). إذاً كمية الإنتاج والسعر من ركائز الأمن القومي الأمريكي، ومن البديهي أن الولايات المتحدة لا تجيره إلى أحد. وأن قرارا السعر وكمية الإنتاج هما أمريكيان 100%.

للدلالة على أن الولايات المتحدة تخطط سراً لخفض الأسعار لتحفيز اقتصادها نورد المثال التالي:

في (دراسة سرية جداً) لوزارة الطاقة الأمريكية وجّهتها إلى وزارة الخارجية في 24/10/1984 جاء فيها:(سياستنا يجب أن تنحو نحو هبوط أسعار النفط 30-40 بالمئة وذلك لمعافاة الاقتصاد الأمريكي). وفي برقية عاجلة من وزارة الخارجية إلى سفارتها في لندن مشفّرَة (سرّي جداً) جاء فيها إن: وزير الخارجية مهتم جداً بدراسة سريعة عن تأثير هبوط كبير في أسعار البترول.  كان ذلك في البرقية رقم 081715 المرسلة في شهر آذار(مارس) 1985.

هبطت الأسعار من معدل 26 دولاراً للبرميل في شتاء 1985 إلى أقل من 10 دولارات للبرميل 1986. تماماً كاليوم كان هذا التخفيض: لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، ولإنهاك الاتحاد السوفيتي الذي كان يحارب في أفغانستان.

ولكن لماذا تقوم هذه الدولة أو تلك بفعل يتنافى مع مصالحها؟ سأل أحد طلبة كلية البترول السعودية في الظهران، وزير بترول المملكة العربية السعودية أحمد زكي اليماني في يناير ،1981 هذا السؤال: المواطن السعودي الذي ينظر إلى السياسة النفطية الحالية سيجد أن المملكة تنتج أكثر مما يحتاجه اقتصادها، وتبيع نفطها بأسعار أقل من المعدلات الجارية، بل أقل من الأسعار التي تبيع بها دول الخليج الأخرى. ومع ذلك فإن هذه التضحية تقابل بهجمات معادية من قبل الصحافة ووسائل الإعلام، بل وحتى من مسؤولين حكوميين كبار في الدول الغربية. ألا تعتقد بأنه حان الوقت لأن نتوقف عن التضحية بأنفسنا في سبيل إرضاء مستهلكي النفط؟. الجواب الذي لم يسمعه السائل هو: لأن الأنظمة تريد الحفاظ على أنظمتها. فالولايات المتحدة تجلس فوق حقول النفط! طبعاً فالقرار ليس قرارها لأنها لو خفضت الإنتاج اليوم إلى 3 ملايين برميل فقط بدل عشرة ملايين لارتفع السعر إلى 120 دولاراً، ولكان الدخل يعادل ما تحصل عليه اليوم بإنتاج 10 ملايين برميل.

النتائج السياسية والاقتصادية لزلزال الأسعار

إن الهبوط المفاجئ، بالطريقة التي حصلت، هو زلزال اقتصادي وسياسي من العيار الثقيل، وسيكون له عواقب عالمية خصوصاً في البلدان المنتجة للنفط. حتى حزيران(يونيو) 2014 كان النفط يباع بــ 115دولاراً / البرميل. كان الافتراض السائد أن السعر سيبقى أعلى من 100 دولار ويزداد ببطء في المستقبل. بناء على هذا الافتراض صرفت شركات الطاقة مئات ملايين الدولارات في عمليات الاستكشاف والحفر في أعالي البحار واستخراج الزيت الرملي في كندا، والزيت الصخري في الولايات المتحدة والزيت الثقيل في فنزويلا، علماً أن معظم هذا النوع من الإنتاج كلفته لا تقل عن 50دولاراً/ البرميل، واليوم هبط السعر عن 30دولاراً/ البرميل أي اليوم السعر قد هبط حوالي 75% عن سعر حزيران(يونيو) 2014 مما يجعل ما يسمى بالإنتاج غير التقليدي المذكور أعلاه دون جدوى اقتصادية، كما سيوقف الإنتاج بواسطة البرامج المساعدة للإنتاج مما يسمى الطرق الثانوية والثلاثية.

الأسباب التي دعت الولايات المتحدة للجوء إلى زلزال اقتصادي هي في الأساس سببان:

– هبوط الاسعار بهذا الشكل الزلزالي يهدف إلى (زلزلة) اقتصاد أعداء الولايات المتحدة وهم روسيا وفنزويلا وإيران – لكن البلد المستهدف أساساً هو الاقتصاد الروسي وبالتالي ما ينتج عنه من زلزال سياسي.

– الاقتصاد العالمي والأمريكي لم يشفَ لتاريخه من الأزمة المالية لسنة 2008 ونتائجها، وهناك تباطؤ اقتصادي في أوربا وحتى في الصين – هبوط الأسعار يساعد على تحفيز تلك الاقتصادات والخاسر الأكبر هنا هي الدول المنتجة.

كانت نتيجة تدهور الأسعار أن خسر حزب شافيز الانتخابات في 6/12/2015 ووصل إلى السلطة معارضوه الذين صرحوا بنيّتهم شطب إصلاحات شافيز. كان التقدير أن يُحدث زلزال السعر الشيء نفسه في روسيا. اختير سعر 50دولاراً في البداية باعتبار أن أكثر انواع الإنتاج غير التقليدي (زيت صخري، زيت رملي، زيت ثقيل، أعالي البحار) يمكن له البقاء والاستمرار على ذلك السعر. المفاجأة كانت بصمود الاقتصاد الروسي وتكييفه على ذلك الزلزال، بعد انهيار الروبل. ومما زاد الطين بله العقوبات المفروضة على روسيا بعد أزمة اوكرانيا، والتي أوقفت إمكانية اللجوء المؤقت للشبكة المالية العالمية. اختير توقيت ضربة عملة الروبل الروسية في كانون الأول(ديسمبر) 2014 حين كان على روسيا دين خارجي ذلك الشهر 70 مليار دولار، وحوالي 40 مليار دولار في الشهر الذي يليه. تصرّف البنك المركزي الروسي بشكل استوعب الضربة التي كان يؤمل أن تكون الضربة القاضية، وتكيف الاقتصاد الروسي إلى حد كبير وبأقل الخسائر الممكنة. المحافظون الجدد الذين يديرون العالم عبر أذرع الولايات المتحدة العسكرية والمخابراتية أصيبوا بصدمة صمود روسيا، وكان عليهم استئناف حربهم تلك.

قامت المؤسسات الأمريكية الحكومية والخاصة بدراسة الخطوة اللازمة لتركيع روسيا. في دراسة أجرتها مؤسسة كانت النتيجة أن 15 من أصل 27 سُئلوا عن سعر النفط الذي سيزلزل الاقتصاد الروسي كانت إجابتهم أن سعر (الزلزال) هو 30 دولاراً للبرميل، وأن روسيا غير مستعدة ولا مؤهلة لاحتمال هذه الصدمة الثانية! اعتقد هؤلاء أن هذا السعر سوف يهز النظام المالي والبنكي، وسوف يعرّض الروبل لهبوط حادّ آخر. وهكذا قررت أمريكا هبوط الأسعار إلى 30 دولاراً.

صرح وزير المالية الروسي في 25/11/2015 أن روسيا تأقلمت مع هبوط الأسعار وأن هبوطه حتى 40 دولاراً لن يؤثر كثيراً على روسيا، البنك المركزي الروسي قام بدراسة نتائج سعر أقل من 40 دولاراً (30 دولاراً مثلاً) فخرج بنتيجة أن الاقتصاد الروسي سوف يتقلص بمقدار 3% وأن أسعار السلع ستزيد حوالي 7%. مثلما جرى تدمير الاتحاد السوفيتي بهبوط أسعار النفط إلى أقل من 10 دولارات، وحرب ثقيلة في أفغانستان، يأمل القابضون على السلطة في العالم الرأسمالي إعادة التاريخ مرّة ثانية بإسقاط نظام بوتين عن طريق ضرب الاقتصاد الروسي وحروب استنزاف اينما امكن.

قبل ان أبدي وجهة نظري أنقل ما تنبأت به وكالة الطاقة الدولية، فقد تنبأت أن سعر النفط سيصل ما بين 50-60 دولاراً من الآن إلى سنة 2020 ويصل إلى 85 دولاراً بحلول سنة 2040. أعتقد أن هذه النبوءة مُسيَسَة. من الناحية الفنية فقط سأورد استقرائي لموضوع الأسعار، علماً أنّ الموضوع تتداخل فيه السياسة بقوة. فلو جرى تغيير سياسة الولايات المتحدة والدول العربية المنتجة للنفط لخفض الإنتاج فسترتفع الأسعار بأسرع من ما أذكر من الناحية الفنية فقط.

كان إنتاج الولايات المتحدة من النفط في شهر كانون الثاني(يناير) 2010 هو 5,5 ملايين برميل في اليوم وأصبح 9,6 ملايين برميل في اليوم، في تموز(يوليو) 2015 – وكل هذه الزيادة جاءت من الزيت الصخري الذي لا يمكن إنتاجه على أسعار 30دولاراً – إذا خرج من السوق حوالي 4 ملايين برميل أمريكي في اليوم ومليون آخر من الآبار المنتجة بالمساعدة الثانوية والثلاثية، فسيرجع الإنتاج الأمريكي إلى أقل مما كان عليه سنة 2010 وهذا سيرفع الأسعار رغم أنف الولايات المتحدة، خصوصاً لو أضفنا إلى ذلك هبوط إنتاج نفط الزيت الرملي من كندا، أضف إلى ذلك هبوط الآبار المنتجة بحدود 3% أي هبوط إنتاج بــ3 ملايين برميل. الاحتمال الأكبر أن مجموع هذه الانخفاضات ستمسح الفائض في المخزون العالمي خلال سنة لترتفع الأسعار إلى 50-60 دولاراً. قطاع إنتاج النفط غير التقليدي الأمريكي يألمون، وكذلك اقتصاد روسيا بأكمله، في لعبة عض الأصابع ومن يصرخ أولاً..

ما يجري الآن هو حرب عالمية بكل معنى الكلمة بين الولايات المتحدة ووكلائها وأتباعها، وروسيا ودول البركس عموماً، ولم تجد الرأسمالية المتوحشة حرجاً في شن حرب عالمية ثانية كان حصادها مقتل 50 مليون إنسان وتدمير بلدان بأكملها، وهي اليوم تدير حرباً عالمية أخرى – حرب طحن عظام – ليخرج منها العالم بشكل مختلف عن الشكل الذي بدا به.

الشعب العربي يدفع فواتير هذه الحروب من بترودولارات ومن بشر ومن حجر، ونحن مسرح رئيسي من مسارح هذه الحرب.

**********

الرابح والخاسر 

الرابح الأكبر هي الولايات المتحدة، والخاسر الأكبر هي الدول المنتجة للنفط خصوصاً الدول العربية في الخليج. ودع الأرقام تتكلم: تمثل ايرادات النفط 90% من صادرات السعودية و %80 من دخل ميزانيتها، وهي الأكثر تأثراً من الدول الأخرى. اعتماد نيجيريا من دخلها على النفط 75%، روسيا 50%، إيران 47%، فنزويلا 40%.

هبوط السعر من 120 إلى 30 دولاراً يعني هبوط 90 دولاراً/البرميل. تستورد الولايات المتحدة حوالي 7 ملايين برميل يومياً، أي توفر 630 مليون دولار/اليوم أو حوالي 230 مليار دولار بالسنة. أضف إلى ذلك تحفيز الاقتصاد الأمريكي بفرق السعر للإنتاج المحلي حوالي 360 مليار دولار / السنة. وهذا التوفير يذهب إلى جيب الشعب الأمريكي، فقد هبطت أسعار البنزين والوقود والكهرباء في الوقت نفسه الذي ارتفعت هذه الأسعار في الدول النفطية المنتجة!

لو كان إنتاج دول مجلس التعاون 17 مليون برميل/ اليوم، فالخسارة اليومية هي حوالي 1,53 مليار يومياً!

******

عن المؤلف: د. عبد الحي زلوم

مستشار ومؤلف وباحث….موقع مشوار ميديا كندا

العدد 1105 - 01/5/2024