الإدارة الأمريكية المأزومة في سياستها الراهنة في المنطقة العربية والشرق الأوربي

 على الرغم من المآسي التي تسببها السياسة العامة للولايات المتحدة الأمريكية في أكثر من منطقة من العالم، ما زلنا للأسف نرى حكاماً وحكومات وأنظمة وأحزاباً عربية وإقليمية وأوربية يلهثون، عمالةً أو جهالةً أو ارتزاقاً، وراء تلك السياسة، فيما يواصل الإعلام الغربي مهامه في تضليل الرأي العام وتشويه الحقائق، بغية استجرار المزيد من العملاء والمرتزقة وضعاف النفوس، وتوظيفهم في خدمة السياسة الأمريكية وأهدافها الإمبريالية المتصلة بالأوضاع الراهنة في الشرق الأوسط أو في الشرق الأوربي أو في غيرهما من مناطق العالم، بما يخدم المسار العدواني الأمريكي تجاه مختلف شعوب العالم وبلدانها المستقلة وذات السيادة منذ مطلع القرن العشرين حتى اللحظة الراهنة .

ولعل ما يوضح ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، ماٍ تشهده الساحتان السورية والعربية والشرق الأوربي في هذه المرحلة من تأجيجٍ امبريالًي للإرهاب والتوتر والإجرام، يُمارسه الغرب الاستعماري والرجعيات العربية الخليجية والطورانية العثمانية، ولعل من لم تخنهم ذاكرتهم مازالوا يتذكرون قول الساعية لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية هيلاري كلينتون : (لن نحارب العرب بجنودنا بعد الآن بل سنجعلهم يقتلون بعضهم بعضا بهدوء)! وهو قول إن دل على شيء فإنما يدل على مدى الاستخفاف الأمريكي، لابالدم العربي وحسب بل بدماء الشعوب وبمصائرهم، كما يدل على مدى ما تكنّه زعيمة الامبريالية في العالم من غدر وحقد وكراهية للشعوب كافة، تترجمه قيامها بالتآمر على بلدان تلك الشعوب بما يخدم مصالح المجمع الصناعي الحربي الأمريكي وإمبراطوريات النفط الأمريكية  التي تهيمن على معظمها الطغمةُ الصهيونية الفاشية المسيطرة على الرأسمال الأمريكي .   

وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضاً، يمكننا التأكيد أن كلينتون كانت تعني ما قالته، فقد سبق لها أن هيأت، يوم كانت وزيرة للخارجية الأمريكية، مستلزمات وضع ما بشرت به العرب وغير العرب موضع التنفيذ من خلال وكالة المخابرات االمركزية الأمريكية (سي، آي، إي) وعملائها في السعودية وتركيا وقطر، لتدمير الوطن العربي وتخريبه ودفع أبنائه للوقوع في مستنقع الأوحال المتحركة (الطائفية والإثنية والمذهبية)، والعمل على حياكة المؤامرات واصطناع الفتن وممارسة أبشع صور الكذب والنفاق السياسي.

في هذا الإطار كان البيت الأبيض الأمريكي يتابع ما ترصده القوى الجوية والفضائية الأمريكية والاستخبارات الأميركية من الأعمال الإجرامية التي ترتكب بحق أبناء الشعب السوري والبنية التحتية السورية، وذلك بهدف الاطمئنان إلى أن عملاء واشنطن السعوديين والعثمانيين ينفذون تعليمات سيدهم الأمريكي القاضية بقتل السوريين وتدمير مدنهم، بما يتلقونه من سلاح أمريكي متطور .

ولاشك في أن قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما إرسال 500 جندي أمريكي إلى الشمال السوري، قد شكل مخالفة علنية صارخة للشرعية الدولية وللسيادة السورية، واعتداء مباشراً وتدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لسورية، ما يؤكد مجدداً استمرار الإدارة الأمريكية في دعم الإرهابيين وحمايتهم وتدريبهم وتسليحهم واستخدامهم وكيلاً عن الجيش الأمريكي، يتحرك وفق ما يتلقاه من أوامر من الإدارة الأمريكية، بغية تعطيل جهود الحل السياسي، في محاولة لإعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم المصالح الأمريكية والإسرائيلية وفرض الهيمنة الأمريكية عليها .

هذا نموذج من السياسة الأمريكية الخاصة بالمنطقة العربية التي تشكل سورية مركزها الاستراتيجي, أما الجانب الآخر من تلك السياسة فإنه يتمثل باستمرار المحاولات الأمريكية الرامية إلى إحكام حلقات درعها الصاروخية حول الاتحاد الروسي، إذ بدأ حلف شمال الأطلسي (الناتو) مؤخراً تشغيل مجمّع صاروخي في رومانيا تابع لـلدرع الصاروخية الأمريكية، بزعم أن هذه الدرع موجهة ضد جمهورية كوريا الديموقراطية والجمهورية الإسلامية في إيران، وأنها لا تؤثر على قدرة الردع الاستراتيجي الروسي، في حين يؤكد واقع الحال أن هذه الخطوات تشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي الروسي .

وتزامناً مع بدء تشغيل هذا المجمّع الصاروخي الأمريكي في رومانيا شرعت الولايات المتحدة الأمريكية ببناء قاعدة مماثلة في بولونيا كجزء من النظام الصاروخي الأمريكي في أوربا، وهو أمر اعتبرته موسكو  تهديداً للاتحاد الروسي مؤكدة أنها تتخذ الاجراءات الدفاعية اللازمة لضمان أمنها القومي، إزاء التهديد الذي يمثله توسّع المنظومة الصاروخية الأمريكية الأطلسية، لا لروسيا وحسب بل كذلك للأمن والاستقرار في العالم، ويعقّد الوضع الاستراتيجي في أوربا ويشكّل خرقاً لمعاهدة إزالة الصواريخ المتوسطة والأقل مدى.

كل ما يحصل في هذا السياق تؤكده الولايات المتحدة الأمريكية، بمواصلتها التمدد في الشرق الأوربي ونشر المزيد من القوات والوسائل العسكرية الاستراتيجية هناك، وحشد أساطيل الناتو في البحرين الأسود والمتوسط، ما يستدعي من الاتحاد الروسي اتخاذ إجراءات جوابية لمواجهة هذا التمدد الإمبريالي العدواني .

ويُلاحظ هنا أن الرد الروسي يُترجم في جانب منه باتخاذ إجراءات ردعية حين يتطلب الأمر ذلك، في حين يتمثل الجانب الآخر بالعمل على رفع العلاقة بين روسيا ورابطة دول جنوب شرق آسيا /آسيان/ التي تضم فييتنام وإندونيسيا وماليزيا وسينغافورة وتايلاند والفيليبين وبروناي وكامبوديا ولاوس إلى مستوى استراتيجي جديد يخدم الخير العام ، حيث أعلنت روسيا نيتها رفع مستوى التعاون مع الرابطة نوعياً، على المستويات العسكرية والأمنية والاقتصادية والتكنولوجية والثقافية بحيث ترتقي صفتها لدى آسيان، من زشريك محاور إلى شريك استراتيجيس في شراكة من أبرز أولوياتها التعاون في مكافحة الإرهاب والعمل من أجل ربط عمليات الاندماج الإقليمي بين رابطة دول آسيان والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شانغهاي للتعاون .

مؤشرات عدة تنبثق عن مجريات السياسة العامة الأمريكية الراهنة على الساحة الدولية ، تذهب باتجاه عزم الولايات المتحدة الأمريكية على خلق حالة من التوتر في العلاقات الدولية من شأنها تهديد الأمن والاستقرار في العالم، ومن ثم الظهور بمظهر القطب الدولي المنتصر القادر على إنجاز الحلول للقضايا الدولية المعقدة، أملاً في أن يخدم هذا الانتصار المزعوم الإدارة الأمريكية الحالية في الانتخابات الرئاسية القادمة .

العدد 1102 - 03/4/2024