
مخيم اليرموك عاصمة الشتات الفلسطيني.. إلى متى؟!
د. نهلة الخطيب:
حافظ اللاجئون الفلسطينيون في شتاتهم على كينونتهم وهويتهم الوطنية الفلسطينية، ومثلت مخيمات اللجوء والتجمعات الأخرى عنواناً رئيساً لهم، ورافداً أساسياً للثورة وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية منذ بدء النضال الوطني الفلسطيني المعاصر، وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية عام 1965، ونتيجة للأحداث الكبيرة التي تعصف بالمنطقة العربية منذ ثورات “الربيع العربي”، التي جعلت القضية الفلسطينية آخر الأولويات في اهتمامات الدول العربية، حتى عملية طوفان الأقصى، وما آلت إليه من متغيرات داخلية وخارجية، أنتجت عذابات وآلام استقاهها الفلسطيني في الداخل وفي مناطق شتاته.
“رغم أن أي فلسطيني يعرف حق المعرفة بأن ما جرى لهم طيلة العقود الماضية هو عاقبة مباشرة للتدمير الذي ألحقته إسرائيل بوطنهم في عام1948، فإن السؤال السياسي والإدراكي يظل يدور حول إمكانية رسم خط واضح مباشر يصل بين عذاباتهم منذ ذلك الوقت وعذاباتهم في الوقت الحاضر، ولا أعتقد أن رسم هذا الخط متاح”، نهب وتخريب وإبادة جماعية وتهجير وترحيل كعقوبة جماعية، خيام متناثرة تعيد بذاكرتهم فصلاً كان قد مر به أجدادهم منذ نكبة 1948، كيف..؟! وقد كُتب على الفلسطينيين وحدهم مواجهة إسرائيل بلحظة تاريخية في زمن السقوط، سقوط العالم المتحضر وغير المتحضر على السواء.
ينظر إلى مخيم اليرموك بوصفه أكبر المخيمات في سورية وبلدان الاغتراب القسري الأخرى، إذ يشكل نحو 40% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات سورية، ويمثل رمز اللجوء وعاصمة الشتات الفلسطيني، أُنشئ بزمن الوحدة بين سورية ومصر عام 1957، وتحول نضالياً إلى مركز للحياة السياسية الفلسطينية، وضم مقرات ومكاتب مركزية على صعيد سورية للفصائل الفلسطينية، فضلاً عن تضحيته بآلاف من الشهداء لفلسطين وللحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وكما هو حال مخيمات اللجوء الأخرى، التي شكلت مركزاً كيانياً مؤقتاً للاجئين الفلسطينيين، إلا أنه امتاز عن غيره بكثافته السكانية وموقعه الجغرافي الهام (أحد أجزاء العاصمة دمشق) وبوابتها الجنوبية، وتداخله مع جواره السوري من بلدات ومدن صغيرة، ويشار هنا إلى تركز نشاط اللاجئين الفلسطينيين الأساسي والرئيسي بالقضية الوطنية الفلسطينية وتطوراتها وعدم التدخل بالقضايا الداخلية السورية، في الوقت الذي انتهجت فيه الحكومات السورية المتعاقبة منذ النكبة، وحتى تاريخه، نهج الحفاظ على الكينونة الفلسطينية وحركة الشعب الفلسطيني الوطنية، وعدم اندماجها في المجتمع السوري مستندة في ذلك إلى قرارات الجامعة العربية ذات الصلة بمسألة اللاجئين الفلسطينيين، والتمسك بالقرار الدولي (194) الضامن لحق العودة.
منذ بدء الثورة السورية في 15/3/2011، وبدء انتشارها إلى العديد من المناطق السورية، توافقت فصائل العمل الوطني الفلسطيني “الفصائل المنضوية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل العاملة في إطار التحالف الوطني الفلسطيني”، على انتهاج سياسة عدم التدخل في الأزمة السورية وفي الشؤون الداخلية السورية، وتحييد المخيمات الفلسطينية من أعمال العنف وتبعاته، ومثل هذا التوافق قاسماً مشتركاً لهذه الفصائل على اختلاف رؤيتها وتوجهاتها، وأصدرت هذه الفصائل مواقف وبيانات سياسية ذات صلة بالأزمة أولها في مطلع نيسان عام2011، وأكدت تباعاً حياديتها، باستثناء حركة حماس التي غادرت سورية وأغلقت مكاتبها وسحبت قواتها منها، والتزم اللاجئون الفلسطينيون ومخيماتهم خصوصاً بهذا التوجه الفلسطيني، الذي صادقت عليه واعتمدته منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وهيئاتها التشريعية والتنفيذية.
وقد عانت المخيمات الفلسطينية بحكم قربها من المدن السورية في دمشق وحلب وحمص ودرعا، لا سيما في ضوء المعطيات الميدانية، وتموضعها على خطوط التماس بين النظام السوري والمعارضة، من امتداد أعمال العنف والاقتتال العسكري الذي شهدته سورية، وخاصة مخيم اليرموك، الذي شغل مدخلاً إلى أحيائها الجنوبية وحيزاً هاماً في تفاعلات الأزمة السورية وتبعاتها على الأرض، فضلاً عن تداخله مع جواره من بلدات وقرى سورية صنفت مناطق ساخنة تسيطر عليها المعارضة المسلحة حينها، وقد حل ما سمي فلسطينياً بكارثة اليرموك في 17 /12/ 2012، إثر سيطرة المجموعات المعارضة المسلحة على المخيم، كخطوة تحضيرية لمهاجمة دمشق من جنوبها، وكان رد النظام السوري عنيفاً بطائرات الميغ كمن يصطاد عصفوراً بدبابة، الأمر الذي أدى إلى هجرة الغالبية الساحقة من سكانه هرباً من العنف المسلح والتدمير والاغتيالات، ولم يسعف مخيم اليرموك حياده أو عدم تدخله في الأزمة السورية وفي الشؤون الداخلية السورية، وبات تحت سيطرة المعارضة المسلحة، تحيط فيه المواقع العسكرية للسلطة السورية المدافعة عن العاصمة دمشق.
ومثل نزوح سكان مخيم اليرموك الاضطراري نكبة ثانية للفلسطينيين فيه، في ظل أوضاع نزوح صعبة في مناطقهم الاضطرارية الجديدة، وفي سياق الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة التي تعانيها سورية ككل، وشكل هذا النزوح تشريداً لسكان عاصمة الشتات الفلسطيني ورمز تجمعاته، وتمزيق روابط قاطنيه العائلية والاجتماعية الأخرى، فضلاً عن تعقيدات الحياة اليومية المعيشية والحياتية القائمة وتبعاتها، ولم تنقذ مخيم اليرموك بعد كل المحاولات الفلسطينية على كثرتها، والتي نصت على خروج المسلحين وتحييد المخيم مرة أخرى والعمل على عودة سكانه، كما لم تنفذه أيضاً المظاهرات العديدة للآلاف من أبنائه للمطالبة بالعودة إلى المخيم الوطن المؤقت والاضطراري.
ونظراً لحجم الكارثة والمأساة الوطنية والإنسانية التي حلت باللاجئين الفلسطينيين في سورية وتبعاتها على المخيمات الفلسطينية عموماً، وعلى مخيم اليرموك خصوصاً، وما تمثله من خطوة خطيرة وطنياً، نحو تصفية الوجود المخيماتي واللاجئ عموماً، وانعكاساتها عملياً على تطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، فإن جهوداً كبيرة بذلت وما تزال من قبل منظمة التحرير الفلسطينية من خلال زيارات وفودها الرسمية المتتابعة إلى دمشق ولقاءاتها مع المسؤولين السوريين، ومحاولات التوصل إلى تفاهمات لحل مأساة المخيم وعودة الأهالي إليه، ولكنها دون جدوى، وتم تدميره بشكل ممنهج، بعد ترحيل المعارضة المسلحة إلى إدلب، فضلاً عن النهب والسرقة التي تعرض له من قوات النظام السابق، يبدو أنه “قراراً سياسياً” لحكومة النظام السابق.
كارثة اليرموك، إلى متى؟!
نراهن على دور حكومة سورية الجديدة، شاركناكم الألم فشاركونا النصر، وتمنيات بالتخفيف من آثار هذه الكارثة، وما تمثله وطنياً وإنسانياً وأخلاقياً وانعكاساتها على مخيم اليرموك عاصمة الشتات واللجوء المؤقت، وغيره من المخيمات أيضاً، للحفاظ على النسيج الفلسطيني ووجود اللاجئين الفلسطينيين والحفاظ على الوجود المتماسك خطوة كبيرة نحو بقاء هذه المأساة قائمة، حتى إيجاد حلولاً عادلة لها وفق القرارات الأمم المتحدة في العودة إلى الوطن الأم فلسطين.