كأننا عشية حرب عالمية.. ولكن أين؟!

د. نهلة الخطيب:

الاتحاد الأوربي يمر بمنعطف خطير حول إمكانيته بالاستمرار، ومواجهة التحديات التي تتفاقم يوماً بعد يوم، بالتوازي مع لهيب حربين في أوكرانيا وفي غزة، وازدياد التضخم الاقتصادي والبطالة والتغير المناخي، وقضايا الهجرة، وهو ما يشكل ضغطاً على قادة الدول الأوربية ويضعهم في موقف محرج، ويُلزمهم بمراجعة التشاركية الثقيلة بسبب اختلاف الظروف والإمكانيات المادية وعجزهم عن تحقيق التكامل الأوربي كما كانوا يحلمون، منذ التحرك الروسي في جورجيا عام 2008، ثم ما تلا ذلك في شبه جزيرة القرم عام 2014، كان هناك خشية من تمدد النفوذ الروسي واستحالة مواجهته في مرحلة لاحقة دون الدخول في مواجهة شاملة مع روسيا، وتكرار سيناريو ماضٍ عندما تحرك هتلر باتجاه بولندا بعد التشيك والنمسا، وبالتالي الحرب الحالية مع روسيا حرب وجودية، ودعمها هو لتلافي صراع أكبر تراه أوربا يلوح في الأفق في حال نجح بوتين في فرض سيطرته على أوكرانيا، وبالتالي فهي ترى أنه لابد من صدّه.

بعد مرور سنوات على تلك الحرب، والغرق الأوربي والأمريكي في الوحول الأوكرانية، والأزمات الذي يعيشها العالم، ما وضع أوربا على المحك في أمنها الطاقي وعجزها عن حسم التهديدات الوجودية، وسببت تباينات وخلافات عميقة في المجتمع الأوربي، وكان من الصعوبة الاجتماع على رأي موحد بين الدول الأعضاء بخصوص مواجهة روسيا، بين من يدعم استمرار  الحرب بدعم أوكرانيا، ومن لا يريد استمرار الدعم الأوربي لأوكرانيا، يضاف إلى ذلك مجاراة الاتحاد الأوربي التحولات المتسارعة الجارية في قطبية النظام الدولي وبروز قوى صاعدة لترسيخ مكانة أوربا وحتى لا تقع فريسة لعبة المحاور بين القوى العظمى، وفي ضوء تلك الأزمات والتحديات الكبيرة التي يواجها الاتحاد الأوربي بشكل قد يؤثر على ديمومته، شهدنا ظهور تيارات اليمين الشعبوي سواء بالوصول إلى الحكم في إيطاليا والسويد، أو تمدد نفوذها في ألمانيا وفرنسا، تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوربي.

نحن على أعتاب مرحلة ربما تكون مختلفة فيما يتعلق بالانتخابات البرلمانية الأوربية، من المتوقع أن تشهد تغييرات كبيرة في توازن القوى داخل البرلمان الأوربي، وهناك تحذير بتقدم اليمين الشعبوي أكثر فأكثر، نحن الآن نشهد وجهاً لأوربا، ولكن ربما بعد أيام وأسابيع قادمة نشهد وجهاً آخر مختلف، سواء للعلاقة الأوربية الأمريكية، أو حتى بالداخل الأوربي، سواء على المستويات الوطنية أو على مستوى القارة الأوربية ككل، مؤشرات باتت تدعم فرضية توجه غالبية الشباب لتعزيز أحزاب أقصى اليمين في معركتها الانتخابية، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى أن ما يصل ربع المقاعد في المجلس التشريعي الجديد ستذهب إلى اليمين الشعبوي مقارنة بالخُمس عام 2019، بحسب المجلس الأوربي للعلاقات الخارجية فإن هذا التحول إلى اليمين له عواقب وخيمة على السياسات الأوربية، وقد يزيد من صعوبة قيام الاتحاد بحشد الأغلبية لصالح أجنداته الخاصة.

بعد الحرب الأوكرانية بدا واضحاً التطورات التي حدثت على مستوى القارة الأوربية، والتغيير العميق الذي أصابها خلال السنوات الماضية، حتى على مستوى التحالفات، يلتقي الحلفاء على شاطئ النورماندي الفرنسي دون بوتين، وهذا تغير عميق جداً، إذ جرى استبعاد روسيا من احتفالات النورماندي بعد أن كانت الحليف و(حليف أساسي) ولكنها هي الغائب الحاضر، لا أحد يستطيع إنكار دور الجيش الأحمر والمعارك التي سمحت عالمياً لتشتيت القوات النازية، وفتح جبهات شرق أوربا، ألمانيا حاضرة في الاحتفالات بعد أن كانت هي العدو في إنزال النورماندي. احتفالات النورماندي حدث دولي، عاشت تطورات القارة الأوربية، وتوترات الحرب الباردة، كانت تشهد لقاءات قمة لرأب الصدع، الرمزية التاريخية لإنزال النورماندي الذي غيّر المعادلة في الحرب العالمية الثانية، وأدى إلى انحسار المد النازي وإلى هزيمته، ولكن هنالك قلق ينتاب أوربا والعالم مع تقدم اليمين المتطرف وتقدم الفاشية، فالحرب العالمية الثانية كانت في مضمونها الأساسي الوقوف بمواجهة الأفكار التي نادت بها الفاشية، ولكن الأدوار انقلبت بالنسبة للأوربيين، وأصبحت فرنسا والاتحاد الأوربي داعمة للفاشية والنازيين.

بايدن الذي خطط للحرب لإضعاف روسيا، وسط توتر عالمي كبير صراع كبير في أوربا، وصراع في الشرق الأوسط، لهذا المنحى دائماً ما يجري في النورماندي حلقة دبلوماسية لابد منها، تعكس كل ما يجري على صعيد القارة الأوربية من جهة والعلاقات الأمريكية الأوربية من جهة. الحرص على العلاقات الاستراتيجية بين أوربا وأمريكا التي سمحت بالقضاء على الفاشية، وضرورة استمرار التحالف الاستراتيجي بينهما خصوصاً في إطار التهديد الذي يمثله ظهور الشعبوية سواء في أوربا الغربية في فرنسا وألمانيا أو أمريكا، وهناك تساؤلات إذا ما وصل ترامب الذي يسعى إلى انكفاء أمريكا على ذاتها، فهل أوربا قادرة على الحفاظ على الهوية الوطنية الأوربية التي تشكلت بعد الحرب الثانية، وتشكيل قيادة قادرة على اتخاذ القرارات المهمة في المسائل الدفاعية والأمنية؟؟

تأكيد بايدن التزام أمريكا بالدفاع عن أوكرانيا بوصفها دفاعاً عن الديمقراطية والقيم المشتركة التي تجمع الأوربيين والأمريكيين، ما يجمع الطرفين أكبر بكثير مما يفرقهما (حرب أوكرانيا)، بايدن في خضم عمليته الانتخابية، وأوربا بحاجة إلى الدعم الأمريكي لأوكرانيا، زيارة بايدن لحظة مهمة في إطار احتمالات مختلفة بعضها مقلق، فهناك قلق أوربي كبير من شبح فوز ترامب، وخصوصاً بعد تخلي أمريكا عن أوربا في عهده، واتهامها بالتقصير في توفير الدعم المادي لحلف الناتو. ففي حال فاز ترامب بالانتخابات، سوف يتخلى عن أوربا ويتخلى عن أوكرانيا، فعلى أوربا أن تهيئ نفسها حتى تكون قادرة على الدفاع عن نفسها وعن أوكرانيا والوقوف ضد المد الروسي، دون الحاجة للحماية الأطلسية الأمريكية، فنحن الآن إزاء أشهر فاصلة.

كل ما يحدث على المسرح الدولي يشير إلى أن أوربا في وضع لا تحسد عليه، نحن أمام انقسام حاد وتفتت قابل للتصعيد بكل ما تعكسه التطورات على الجبهة الأوكرانية، ولكن اللافت أننا لسنا أمام أوربا الموحدة بشطريها الشرقي والغربي، بل نحن أمام أوربا تخوض حرباً مرشحة للتصاعد خصوصاً بعد تصريحات ماكرون العلنية بإمكانية إرسال جنود فرنسيين إلى أوكرانيا، والسماح لأوكرانيا باستخدام أسلحة أمريكية تطول الأراضي الروسية، هناك مخاوف حقيقية مع تهديدات موسكو بنشر أسلحة على مسافة من أمريكا وأوربا، إذا كانت الحرب الثانية قد انتهت بالقنبلة النووية، من الممكن، أن تبدأ حرب عالمية ثالثة بالقنبلة النووية، وكأننا عشيتها، ولكن أين؟!

العدد 1140 - 22/01/2025