خطة الحدود الاستراتيجية الروسية تهديدات مبطنة للغرب

د. نهلة الخطيب:

الأزمة في أوكرانيا على أهميتها، ليست أوكرانية بحتة، بل محاولة لإشغال (الدب الروسي) في فضائه، على حساب دوره الدولي المتصاعد نحو عالم أكثر (توازناً)، ومحاولة فصل روسيا عن أوربا، وهذا ما يدركه الكثيرين وبضمنهم الأوربيين أيضاً، هذا ما أشار له بريجنسكي (سكرتير الأمن القومي للرئيس جيمي كارتر) إلى أهمية أوكرانيا في إبعاد روسيا عن أوربا، (وهو المنظّر لتفكك الاتحاد السوفييتي وضرورته).

تغير المشهد بدخول الحرب الروسية الأوكرانية عامها الثالث، مشهد مر بتحولات كبيرة، ومعارك دامية بين الطرفين، والهجوم الروسي الأخير يفتح الطريق أمام التوغل الروسي، ويؤكد أن الرئيس الروسي لا تزال لديه طموحات إقليمية كبيرة لم تتحقق في أوكرانيا، قالها بوتين أن (حدود بلاده بلا نهاية)، وقد يسعى للسيطرة على أراضٍ جديدة خلال الأشهر المقبلة، وتحقيق انتصارات جديدة في ساحة المعركة، مدفيدف أكد ذلك: (على الجميع أن يحسبوا حساب الحدود الاستراتيجية لروسيا تمهيداً لرسم الحدود الجغرافية، سواء أرادوا ذلك أم لا، وموسكو لن تتراجع عن ذلك، فهذا جزء من هويتنا الأساسية، ومن مبادئ سياستنا الخارجية)، هذا ما أثار هواجس الغرب بشأن تمدد محتمل لروسيا قد يطول أراضي التكتل الأوربي خط الدفاع الأول للمواجهة. بوتين يبدو أكثر ثقة على هزيمة أعدائه في الداخل والخارج، وهو يهاجم أمريكا وحلف الناتو والاتحاد الأوربي، ما دام شريان الأسلحة موجوداً والدعم اللوجستي لأوكرانيا.

شهدنا تطورات خطيرة عندما بدأت روسيا حربها على أوكرانيا، بمغادرة دولتين الحياد الذي حافظت عليه (السويد لمدة قرنين من الزمن، وفنلندا أكثر من سبعين عاماً بعد الحرب العالمية الثانية)، والانضمام لحلف الناتو، فأصبحت روسيا في متناول صواريخه، وقبلها دول البلطيق السوفياتية سابقاً (ليتوانيا، استونيا، لاتفيا)، والتي تعد من أكثر المؤيدين لأوكرانيا وأشد عداءً لروسيا، لأنها تشكل خطراً وجودياً عليها بسبب صغر حجمها وضعف قدراتها مقارنة بالجيش الروسي، ومقترح روسي قديم حول مراجعة الاعتراف بالاستقلال غير القانوني لدول البلطيق بعد الحرب الباردة  عام 1991، دفعها إلى الانضمام للاتحاد الأوربي وحلف الناتو وبناء خط دفاع مشترك، وتعزيز الوجود الأمريكي والاطلسي وتكثيف النشاط الاستخباراتي والأمني بالمنطقة تحسباً لأي فعل روسي.

عندئذٍ تحول بحر البلطيق إلى بحيرة خالصة لحلف الناتو، ووجدت روسيا نفسها أمام وضع معقد، إذ إن توسع حلف الناتو كان أحد الأسباب الدافعة لتحرك موسكو العسكري ضد أوكرانيا، وأصبحت روسيا تشترك بحدودها البرية مع دول حلف الناتو بعد انضمام فنلندا بما يقارب (2600 كم) بعد أن كانت (1300 كم) قبل الانضمام، وكان من أسوأ تداعيات الحرب الأوكرانية من الناحية الجيوسياسية ضعف الوجود الروسي في هذه المنطقة المتمثل في جيب كالينينغراد الذي يشكل تهديداً كبيراً ومستمراً بسبب موقعه الجغرافي، (يتركز فيه أسطول بحري روسي كامل يضم سفناً وغواصات وقوات بحرية، وفي عام 2014 نشرت أسلحة نووية تحسباً لأي وجود أطلسي في دول البلطيق)، والخليج الفنلندي الذي يشرف على سان بطرسبورغ، لذلك روسيا تسعى إلى إعادة تثبيت أوضاعها وعدم تحوله إلى بحيرة للناتو، بحر البلطيق له أهمية استراتيجية كبيرة لروسيا، ففي القرن السابع عشر استطاعت روسيا السيطرة على هذه المنطقة بعد حروب كبيرة خاضها بطرس الأكبر الملهم الإيديولوجي لبوتين الذي يسعى أن يعيد أمجاد القيصر وإحياء روسيا العظمى، حينئذٍ استطاعت روسيا أن تحتل منطقة في الخليج الفنلندي وتبني سان بطرسبورغ عاصمة القياصرة الروس والعاصمة الشمالية لروسيا.

خطوة روسية جديدة أثارت القلق لحلف الناتو وأعضائه الجدد، رداً على السياسة الدفاعية التي تتبعها دول البلطيق الأطلسية، والتي أدت إلى تغيير الترتيبات الأمنية المعتمدة ببحر البلطيق جذرياً، خطة تغيير الحدود الروسية البحرية في هذه المنطقة، أطلقتها وزارة الدفاع الروسية وطلبت مراجعة الحدود الإقليمية لبحر البلطيق وتعديل الحدود حول الجزر الروسية في شرق خليج فنلندا وحول كالينينغراد وتوسيع مياهها الإقليمية المتاخمة لفنلندا وليتوانيا، قُدّم الاقتراح ثم سُحب، وجرى تبرير اقتراح التعديل بأن الاتحاد السوفييتي استخدم في عام 1985 خرائط بحرية تعود إلى منتصف القرن العشرين لا تتوافق تماماً مع الإحداثيات الحديثة للخرائط وبالتالي يجب إبطالها، مما أثار حفيظة استونيا وليتوانيا اللتين طلبتا من روسيا شرح خطتها حول توسيع الحدود البحرية مع البلدين من جانب واحد، واعتبرت أن ذلك قد يؤدي إلى استمرار التوتر، (والدخول في فصل جديد من الحرب الهجينة) حسب وزير الدفاع الألماني.

هدف روسيا من خطة تغيير الحدود الاستراتيجية البحرية تهديدات مبطنة وتحذير لدول الناتو أن روسيا لن تقبل هذا الوضع، وتحريك الجمود على طاولة المفاوضات، وربما تغير كافة الترتيبات الأمنية بأوربا المعتمدة ضمنياً منذ الحرب الباردة، والذي سيؤدي إلى التحول لنظام دولي جديد يعكس توازن قوى عالمية ستتحدد معالمه بعد نهاية الحرب، ونهاية الحرب قد لا تبدو قريبة، فإن التفاعلات الأوكرانية الداخلية والخارجية مستمرة، وربما تزيد وتيرتها من الجانب الروسي، مع إدراكها أن الغرب في موقف ضعيف، وإدارة بايدن في وضع لا يسمح لها قبول أي تسوية أو مفاوضات، بسبب الاستحقاق الرئاسي القادم، وفشل هذه الإدارة في هذا الملف، ربما يحسم الانتخابات لمرشح أخر، له أولوياته وخياراته بشأنها، ويرى أن الحرب كارثة للجميع يجب إيقافها وبإمكانه إيقافها خلال 24 ساعة! التريث مطلوب والحروب الكبرى ممنوعة وقطار الحل لن ينطلق إلا بعد استلام الطواقم الجديدة، أشهر تفصلنا عن موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والانتخابات الأوربية التي ستؤشر إلى طبيعة الحل القادم، وقد تترك نتائجها انعكاسات كبيرة على أكثر من صعيد في الكثير من الملفات الساخنة في مناطق مختلفة من العالم.

 

 

العدد 1140 - 22/01/2025