حرب ما بعد الحرب.. الجرح السوري المفتوح

فادي إلياس نصّار:

عاجلاً أم آجلاً، ستنتهي الحرب على سورية، مُخلّفةً وراءها رائحةَ البارود وآهات الأُمهات وقلوباً مكسورة، ومُخلّفةً جيلاً كاملاً من البشر الذين يحتاج كل فردٍ منهم الى إعادة بناء وتأهيل الإنسان فيه، ستنتهي الحرب بعد أن تكون قد نهشت جسد البلاد من كل نواحيه، وبعد أن نهبت المواقع الأثرية النادرة عالمياً (كنيس جوبر اليهودي أكبر مثال)، وأحرقت آلاف الهكتارات من الغابات الساحرة وآلافاً أخرى من المحاصيل الزراعية الغناء، وبعد أن نهبت 80 في المئة من إنتاج النفط والغاز السوري، على مدى عقد تقريباً. ستنتهي الحرب فيتهافت كل رأسماليّي العالم بحثاً عن حصة لهم في كعكة إعادة إعمار البلاد (بهدفٍ غير إنساني).

مرّت ثلاث عشرة سنة، دَمَّرت خلالها آلة الحرب على سورية، والجرائم التي ارتكبها (تنظيم الدولة الإسلامية) في حق المدنيين، وأسطول الفساد الحكومي، وتجار الأزمات، الحياة السورية تدميراً شبه كامل، فقد أشارت اليونيسيف الى أن ما يقرب من تسعة ملايين طفل تأثروا بالحرب ( جزء منهم، وهو ليس بالقليل، انخرط في أعمال العنف)، وأن نصف هذا العدد حُرموا من الذهاب الى مدارسهم، بسبب نزوح أهاليهم، وبقاء أهالي آخرين في مناطق سيطرة دولة التخلف والأمية (داعش)، كما خسرَ عشرات آلاف الأطفال أحد الوالدين أو كليهما، كذلك هجّرت هذه الحرب  مئات آلاف الشباب (أدمغة، وأيدٍ عاملة) من البلاد، ما تسبّب بتغيّر ديمغرافي فظيع (قرى خالية من السكان ومدن مكتظة، نسب الإناث تعلو على نسب الذكور).

فيما خسرت آلاف العائلات في الريف مصدر رزقِها الوحيد، في الزراعة، وتعرضت ينابيع المياه ومصادر الطاقة في طول البلاد وعرضها إلى النضوب شبه النهائي، ونُهبت آلاف القطع الأثرية (23 ألف قطعة)، كما تعرضت المواقع الستة التي أعلنتها (اليونسكو- (uNESCO، في سوريm جميعها للتدمير بشكل كامل أو جزئي.

وهُدمَ نحو نصف مليون منزل، وانتشرت الأمراض السارية مُهددةً حياة الإنسان السوري.

في مواجهة هذا الدمار الرهيب، يُصبح مشروعاً طرح أسئلة من وزن: هل من قُتِل ابنه سيسامح وينسى؟ وهل سينسى الفلاح الذي اُحرقت مواسمه أمام عينيه؟ هل سيتعافى جيل ما بعد الحرب، من العقدة الرهيبة التي تركتها المشاهد الفظيعة للرؤوس، والأذرع والأقدام المقطوعة؟ وهل سيتعافى الأطفال الذين سُرقت أعضاؤهم، والنساء اللواتي بيعت أجسادهن في سوق النخاسة؟ ثم ما هو الحجم الحقيقي للتشوه الإنساني الذي لحق بالمجتمع السوري الذي اختل توازنه الديمغرافي منذ سنوات الحرب الأولى؟

دمرت الحرب بحدود 40 في المئة من القطاع التعليمي، تدميراً شبه كاملاً. الأمر الذي أدى الى ولادة جيل نصفه تقريباً جاهل، والبقية شبه متعلمة، وعليه فالدولة السورية اليوم أمام مهمة صعبة ألا وهي: إعادة تأهيل جيل كامل.

تكمن صعوبة هذه المهمة، في أن الدولة يجب عليها: أولاً إخراج هذا الجيل من بوتقة العقد النفسية التي خلفتها الحرب (خلفت نحو مليوني إصابة نفسية بحسب جريدة (تشرين))، ومن ثم العمل على وضع قوانين وأنظمة جديدة تساعد على إعادة بناء جيل حضاري، واعتماد سياسة إعلامية تُعمق ثقافة التسامح ضد ثقافة الحرب والعنف والاقتتال، كما يجب عليها وضع مناهج تربوية تعليمية جديدة تُرسخ لدى هذا الجيل مفاهيم أكثر إنسانية بعيداً عن التشدّد الديني والتمييز العرقي والسياسي، والعمل على تفعيل فكرة التآخي الحقيقي وليس الشكلي (كما كان سائداً في سورية)، وستكون هذه المهمة جزءاً لا يتجزأ من حرب ما بعد الحرب، التي سيكون مسندها الاساسي هي عجلة الاقتصاد .

فربما ينتُج عن إعادة إعمار الإنسان السوري (على أقرب تقدير بعد عقودٍ أربعة) جيلاً يعرف حقوقه وواجباته بدقة، متعلم وواعٍ، يُدرك عمق المشاعر الإنسانية ويتعامل مع الآخرين برقيّ وليس بغرائزية (يعمل منظرو العولمة منذ زمن طويل على نشر برامج تلفزيونية تميل الى الميوعة في كل دول العالم لتفريغ الأجيال من محتواها الإنساني)، سينتج جيل ينظر الى الطبيعة الأم على أنها الملاذ الأول والأخير لإنقاذ البشرية، فيحميها، يهتم بشؤون الطفل والمرأة، ويعي أن انتماءات الناس (الدينية والفكرية والسياسية) ليست مقياساً لتقييم الناس وبناء العلاقات بين البشر.

ربما يحتاج الأمر جهوداً جبارة وآلاف آلاف الخبراء والعاملين، وربما لن تقدم المنظمات الدولية والإنسانية (الكاذبة) التي تعتبر أن مهمتها قد انتهت بمجرد وقف أصوات المدافع، أية مُساعدةٍ تساعد في إعادة إعمار الإنسان السوري، وستكون هناك مصاعب جمة وعثرات، ولكن إن نجحنا في إعادة تأهيل الإنسان السوري، سنثبت للعالم أن الحروب لا تُنهي الأُمم، وأن جنون العم سام ومن معه من دول الناتو، لن يقف في وجه شعب هو الوريث الوحيد لحضارات الآشوريين، السريان، الكلدان والفينيق.. شعب سورية الذي لا يموت.

العدد 1140 - 22/01/2025