ماذا وراء صاروخ بولندا؟
د. صياح فرحان عزام:
بعد انفجار صاروخ طائش في بولندا، ارتفع مؤشر التوتر بين روسيا والغرب، خاصة بعد أن سارعت أوكرانيا وبعض الدول الصغرى في حلف الناتو إلى تسخين الأجواء، واتهام روسيا بأنها هي من أطلقت الصاروخ المذكور، مع شن حملة إعلامية شرسة ضد موسكو في محاولة للاقتصاص من خصم قديم.
ورغم دفع الوضع إلى أعلى درجة من التصعيد والتوتر، ارتأت الدول الكبيرة في الحلف وعلى رأسها الولايات المتحدة ضرورة التريث وضبط النفس لاستكمال التحقيقات، حتى تم لاحقاً الاعتراف بأن هذا الصاروخ الطائش هو صاروخ أوكراني، علماً بأن روسيا أعلنت الشيء نفسه (أي أن الصاروخ أطلقته القوات المسلحة الأوكرانية).
في بداية الأمر، حاول أنصار التصعيد أن يشوشوا على دعوات التأني، ما يعكس نوايا شريرة مضمرة لاستثمار هذا الحادث، ولممارسة ضغط أكبر على روسيا، إلى درجة الدعوة إلى تفعيل المادتين 4 و5 من ميثاق الحلف الداعيتين إلى التشاور من قبل دول الحلف حول هذا الموضوع، ولاحقاً الالتزام بالدفاع عن بولندا (العضو في الحلف)، من منطلق أن ما اعتبروه عدواناً روسياً عليها، يتطلب – حسب مزاعمهم – أن يتدخل الحلف كاملاً بالقوات العسكرية لحماية بولندا.
لقد أوضحت روسيا موقفها بأنها لا علاقة لها بهذا الصاروخ، وأنها لو أرادت أن تقصف أهدافاً، فلن تستهدف جراراً زراعياً في حقل بولندي على مقربة من الحدود الأوكرانية، مع قيام مسؤولين روس بتوعد الأطراف التي تحاول جر العالم إلى صراع واسع النطاق سيدفع ثمنه الجميع، وخاصة دول أوربا الشرقية التي تضمر الحقد لروسيا والشعب الروسي.
وفي هذا السياق عمد الأمين العام لحلف الناتو سترانسبورغ إلى تحميل روسيا المسؤولية عن إطلاق هذا الصاروخ، بذريعة أنه لولا الحرب في أوكرانيا لما وقع الحادث. وبالطبع هذا تحريض واضح من جانبه ضد روسيا، وتأكيد على دعم الحلف لأوكرانيا ورئيسها (الدمية).
أما الولايات المتحدة التي تتذرع بأنها تحمي بقوانينها معظم الدول الأوربية، فقد كان موقفها تجاه حادث الصاروخ أقرب إلى التوازن، ولم تشأ أن تخاطر بأي تصعيد عسكري ولا حتى دبلوماسي، كونها أقدر من غيرها على معرفة حيثيات ما جرى حتى من دون إجراء تحقيق.
يشار إلى أن الاتصالات بين الأجهزة العسكرية والأمنية الروسية والأمريكية لم تنقطع، على الرغم من التوتر القائم بين البلدين، انطلاقاً من مخاوف مشتركة من إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة. وفي هذا السياق يتواصل كبار المسؤولين العسكريين من الطرفين مؤكدين في كل مناسبة تجديد الالتزام بالخطوط الحمراء، وربما هذا ما يفسر تجاوز هذا الحادث، وإحباط المساعي المشبوهة الرامية إلى التصعيد بين روسيا والغرب.
وهكذا فإن اللحظات الحالية قد تكون مواتية ليعلو فيه صوت الدبلوماسية على صوت المحرضين، على التصعيد، وعلى قعقعة السلاح وهدير الطائرات وأزيز الصواريخ، فمن دون إجراء مفاوضات بين روسيا وحلف الناتو لن تنتهي هذه الحرب في المدى المنظور، خاصة أن روسيا لم ولن تسمح لحلف الناتو الغرب بأن يلحقا بها هزيمة مهما كلفها الأمر.
أما إذا استمر الغرب في تصعيده العسكري من خلال دعم أوكرانيا بالسلاح الفتاك والخبراء والمقاتلين، فقد تصل الأمور إلى مرحلة أسوأ من أي حروب وصراعات سابقة.
وقد عكست وسائل التواصل في أوربا الشرقية مخاوف وكوابيس اندلاع حرب كبرى، وعادت إلى الذاكرة صور مآسي الحرب العالمية الثانية، وترافق ذلك مع ارتفاع أصوات تدعو إلى ضرورة أن تتجنب الأجيال الحالية ما عاناه الأجداد من ويلات الحروب.
بقي أن نقول إن أوربا بدولها الكبرى والصغرى لا قرار لها بشأن الاستمرار في هذه الحرب أو إنهائها، فالقرار يعود للولايات المتحدة، التي يبدو أنها لا تريد وقف هذه الحرب، لأنها المستفيد الأول منها، فوزير الخارجية الأمريكي صرح بعد حادث الصاروخ بأن بلاده ستواصل دعم أوكرانيا عسكرياً واقتصادياً.