بهاء طاهر.. وداعاً أيها المثقف الحرّ!

د. ماهر الشريف:

من بين الكتب التي جعلت عدداً من المثقفين الماركسيين العرب يكتشفون أهمية الأفكار التنويرية التي روّج لها رواد النهضة العربية، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، ويتبنّون مقولة المفكر المغربي عبد الله العروي القائلة إن الانتقال إلى الاشتراكية في مجتمعاتنا العربية لا يمكن أن يتم قبل تحقيق مهمات الثورة الوطنية البرجوازية، بمعنى إقامة الدولة المدنية الحديثة، دولة المواطنة، كتابٌ متوسط الحجم في حدود 200 صفحة صدر عن دار الهلال في القاهرة في سنة 1993 بعنوان (أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية).

برز صاحب هذا الكتاب في السنوات اللاحقة بصفته واحداً من أبرز الروائيين العرب، إذ أّلف عدداً من الروايات التي لاقت أصداء واسعة في العالم العربي وترجمت إلى لغات عديدة، لكن كتابه المشار إليه يبقى في نظري من الكتب الرئيسية التي تلقي الضوء على العلاقة الوثيقة بين الثقافة والحرية، وتبيّن كيف أن مصادرة الثقافة من قبل السلطة السياسية وتراجع دور المثقف التنويري الحر هما من أبرز عوامل (أزمة الآفاق المسدودة) –على حد تعبير فهمي جدعان- التي يواجهها العرب منذ عقود.

ففي كتابه: (أبناء رفاعة.. الثقافة والحرية)، يعتبر الروائي المصري الكبير بهاء طاهر أن رفاعة رافع الطهطاري (1801-1873)، الشيخ الأزهري الذي أُوفد في بعثة علمية إلى فرنسا وقضى في باريس خمس سنوات (1826-1831) هو بمثابة الأب بالنسبة للنهضة الفكرية في مصر، ذلك أنه هو من (أرسى مفاهيم مثل الحرية والمساواة والأخوّة الوطنية  والوطن)، وأن أبناءه هم الذين نقلوا مصر إلى العصر الحديث لامتلاكهم قدراً من الوعي بأسس الدولة المدنية، وهم الذين عملوا بصورة تدريجية، على امتداد نحو 150 عاماً، من أجل إخراج المجتمع المصري من ظلام العصور الوسطى إلى أنوار الحداثة والحرية، وذلك إلى أن كانت ثورة يوليو 1952 التي لم تترك فرصة للمثقفين لتجسيد ثقافة الحرية في المجتمع، ثم حلّ عقد السبعينيات في القرن العشرين، فشهد انقلاباً على ما قبله، وشنّت خلاله حملة على الثقافة الجادة استهدفت (طرد المثقفين الحقيقيين) من مصر و(إسكات وإضعاف من تبقى منهم في مصر، وجلب بدلاً منهم مجموعة من الوعاظ المهاجرين منذ العهد الناصري إلى دول الخليج… كانوا معنيين تماماً بإبعاد الدين عن قضايا التطور الاجتماعي والحض على طاعة الحاكم والتركيز على الجوانب الشكلية للعبادات، وبمضي الوقت أصبحوا سلطة دينية).

وهكذا، صودرت الثقافة، وشهدنا (تراجع دور المثقف وضعف الإيمان بأهمية الثقافة في نهاية القرن العشرين).

العدد 1140 - 22/01/2025