نظام عالمي جديد ملامحه.. من طريق الحرير إلى مبادرة الحزام والطريق
د. نهلة الخطيب :
طريق الحرير هو الاسم الذي أطلقه الرحالة الألماني فرديناد ريتشهوفن عام 1877 على شبكة الحضارة العالمية وعلاقاتها التي تربط بلدان الشرق وإفريقيا بأوربا منذ آلاف السنين عندما كان الشرق وآسيا من المراكز الأساسية للحضارة العالمية اقتصادياً وعلمياً وإدارياً، وقد تراجع دورها مع ظهور الاستعمار.
الصين التي تضم خُمس سكان العالم بتعداد يصل إلى مليار ونصف مليار نسمة، وتمتلك أيضاً من التاريخ خمسة آلاف عام، مرت كغيرها من الأمم بمراحل تاريخية عديدة، اُحتُلت من الدول الأوربية واليابان في القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلا أنها استعادت قوتها واستقلالها تحت حكم الحزب الشيوعي الذي استلم السلطة عام 1949، وارتفعت مكانة الصين الدولية بسبب القفزة الاقتصادية والتجارية التي حققتها، وأصبحت ظاهرة من ظواهر العولمة في القرن الحادي والعشرين، مع استمرار تمسكها بالحكم المركزي تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني.
بدأت الصين عملية إحداث ثورة في المجتمع الصيني، واختار زعيم الحزب الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ في الفترة (1949-1974) أن ينحاز لجانب الاتحاد السوفييتي وأن يتحالف معه، وأطلق برامج طموحة تهدف إلى التنمية الصناعية والبناء العسكري بمساعدة سوفييتية، وتوالت على الصين قيادات حرصت على النهوض بها، وعندما تولى شي جين بينغ السلطة نجح في ترسيخ مكانة الصين كقائد اقتصادي إقليمي، فهي تعدّ أكبر شريك تجاري لجميع دول آسيا، وظهر طموحه في مركزية الصين في النظام العالمي وعودة الندّية والمساواة والمنافسة المتكافئة واضحاً من خلال مبادرة (الحزام والطريق)، وهو مشروع إحياء طريق الحرير الذي أطلقه الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013 الذي تشارك فيه من عام 2017 أكثر من 68 دولة ويضم 65% من سكان الكرة الأرضية ويمثلون حوالي40% من إجمالي الناتج الوطني العالمي، وقد بلغ عدد الدول التي وقعت مذكرات تفاهم الحزام والطريق 138 دولة حتى عام 2020، فهذه المبادرة تقدم مظهراً مادياً لمركزية الصين من خلال ثلاثة ممرّات برية وثلاثة ممرات بحرية ستربط الصين بآسيا وأوربا والشرق الأوسط وإفريقيا، إضافة إلى خطوط سكك حديدية وجسور جديدة وكابلات ألياف ضوئية وموانئ، مع إمكانية وضع قواعد عسكرية، وتضيف أيضاً مظهراً روحياً في أنها تعيد إلى الأذهان ذكريات تاريخية عن طريق الحرير ومركزية الصين القديمة تاريخياً، إضافة إلى أن طريق الحرير وجهٌ آخر للعولمة سيتحقق من خلاله نقل الثقافات والديانات والعادات والتجارب والقيم الروحية والمجتمعية وتبادلها.
تحتل الصين مكانة مركزية في النظام الدولي، فهي تعتبر أكبر قوة تجارية وسكانية وعسكرية واقتصادية، فهل تسعى الصين إلى تشكيل نظام عالمي جديد، أم تحاول فرض تعديلات عليه فقط؟ في استعراض لرؤية الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي يرى مركزية بكين بشكل قد يمكّنها من تغيير النظام الدولي جذرياً، وإن الصين الجديدة ستقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية أو ربما تتفوق عليها، وبالنظر إلى توزيع القوى بالعالم نرى أن الصين هي القوة البارزة في آسيا وأن تسارع التحولات الجيوستراتيجية يعكس ويعزز تحولاً عميقاً، وهو صعود نظام محوره الصين بقواعد وقيم خاصة بها تتجلى بأولوية الدولة وعدم وجود رقابة مستقلة على سلطتها، والحد من الحريات الفردية، وتقييد الأسواق المفتوحة، وتعزيز دور المؤسسات والقوانين والتكنولوجيا.
عملت الصين على رسم خارطة الصين من خلال فرض سيادتها على الأقاليم المتنازع عليها منذ زمن طويل( هونغ كونغ، تايوان، بحر الصين الجنوبي ) ففي عام 2020 فرضت الصين قانوناً للأمن القومي على هونغ كونغ أنهى فعلياً استقلالها وأصبحت مدينة صينية بموجب نموذج الحكم (دولة واحدة ونظامان) الذي وُضع في عام 1997، وجرت إعادة تأكيد السيطرة على المياه المتنازع عليها مع بروناي وماليزيا والفلبين وفيتنام وتايوان، بنشر القوات البحرية العسكرية الصينية، إضافة إلى أسطول الصيد الصيني الضخم، أما بالنسبة لتايوان فسيولة النظام الدولي والاستفزازات الأمريكية عن طريق إرسال أسلحة ثقيلة لتايوان والمناورات العسكرية الأمريكية في المنطقة فرصة لتجعل الصين تحذو حذو روسيا في استعادتها بالقوة القهرية العسكرية، وبذلك تكون الولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة ضد الصين وتكون تايوان بداية لتاريخ جديد.
في الحرب الروسية الأوكرانية الحالية وقفت الصين موقف المحايد والمترقب، ورفضت إدانة الحرب والعقوبات التي فرضتها أمريكا والغرب ضد روسيا، فعلاقات الصين وروسيا كانت ومازالت متعددة الأبعاد عميقة الجذور، بعد أن مرت بفترات صعبة قبل الحرب الباردة حرصت فيها السياسات الأمريكية والغربية على تعميق هذا الخلاف، ولكن بعد الحرب الباردة جمعهما خندق واحد في مواجهة المعسكر الغربي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تلك السياسات تتجسد بفرض العقوبات ضد الصين مرة ومرات أخرى ضد روسيا، فتقاربت الدولتان نحو شراكة استراتيجية، وفي عام 2001 وقعتا معاهدة (صداقة وتعاون) اتخذت الشراكة أبعاداً كثيرة في مجالات عديدة عسكرياً وتجارياً وطاقياً وتنسيقاً سياسياً في كثير من المواقف السياسية الدولية والإقليمية، وتجسدت في تأسيس الدولتين لأطر تعاون مؤسسي مثل منظمة (بريكس)، ومنظمة التعاون شنغهاي، ومنظمة R.I.C (روسيا، الهند، الصين).
وتعد الصين بالنسبة لروسيا أكبر شريك اقتصادي وخاصة بعد بيان الشراكة الاستراتيجية (بلا حدود)، الذي وقّعه الرئيسان الصيني والروسي في 4/2/2022، وتضمّن عدة اتفاقيات يتجاوز عددها 15 اتفاقية، أهمها توريد الغاز الروسي إلى الصين عبر خط أنابيب جديد طاقته 50 مليار م3 من الغاز سنوياً، ونصّ أهم بنود الاتفاقية على توريد 10 مليارات م3 من الغاز الروسي إلى الصين سنوياً على مدى 30 عاماً بدءاً من عام 2026، وتسوية مبيعات الغاز بين الجانبين باليورو بدلاً من الدولار الأمريكي، وتقدر الصفقات بقيمة 117 مليار دولار لشراء النفط والغاز، فالاقتصاد الصيني الضخم يمثل المنقذ للاقتصاد الروسي بعد تشديد العقوبات الغربية، وهنا سوف تحتضن الصين الجزء الأكبر من صادرات روسيا من الغاز والفحم والبتروكيميائيات تعويضاً لها عن الحرب الاقتصادية الشاملة التي تمارسها دول التحالف الغربي وخاصة على قطاع النفط والغاز، وهنا ستجد الصين نفسها شاءت أم أبت طرفاً في هذه المعركة، وإن اختارت رسمياً الحياد في الأزمة الروسية الأوكرانية، وخاصة أنها تدرك المخاطر الاستراتيجية الكامنة في استمرار هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية على النظام الدولي، سواء على المستوى السياسي أم الاقتصادي، وتدرك أيضاً التهديدات الهائلة للصين في حال نجاح التحالف الغربي الأمريكي المتمثل بحلف الناتو في كسر روسيا والانتصار عليها في هذه المعركة الدائرة حالياً في أوكرانيا.
الاستراتيجية الصينية حول النظام العالمي الجديد ستتطلب وقتاً طويلاً، وهذا يتفق مع استراتيجية 24 حرفاً للرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ، وهي: (أخفِ قوّتك، وانتظر وقتك، وقدّم ما عليك، ولا تدّعِ القيادة المبكّرة، وعند قطع النهر يجب أن تتلمّس الحجارة)، وليس خافياً على أحد التغييرات التي أصابت النظام الدولي، وقد تكون الصين غير راغبة في الاستفراد بقيادة العالم، بل المشاركة بنظام متعدد الأقطاب تكون أحد اللاعبين الدوليين فيه، ولكن ليس بمواجهة الولايات المتحدة الأمريكية.