الإجماع العربي إلى أين؟

 حكي في الفترة الأخيرة بشكل مستمر عن الإجماع العربي، في الأوساط التي تستخدم هذا الإجماع شماعةً لتمرير مشاريع وخطط غربية أمريكية لا تمتّ بصلة إلى أي إجماع. ولكن هذه الجهات والدول كيف تفهم الإجماع العربي؟ بعد أن أصبح يأخذ منحى مختلفاً عن طبيعة العمل والإجماع العربي الذي على أساسه تكونت الجامعة العربية بعد الحرب العالمية الثانية. وضمت في عضويتها الدول المستقلة والتي حصلت على استقلالها وطردت الجيوش المستعمرة الأجنبية من أراضيها، وكان أحد شروط الانتساب إلى الجامعة أن تكون دولة مستقلة ذات سيادة. وكانت الجامعة العربية في تلك الحقبة تضم بعض الدول التي تعد على أصابع اليد وكانت قد حصلت على استقلالها وجلت القوات الأجنبية الغازية عن أراضيها، وكانت سورية ولبنان من الدول المؤسسة لهذه الجامعة. بينما الدول التي تتبجح اليوم عن الإجماع العربي وسيطرت على قرارات الجامعة وخطها ومسيرتها، كانت لاتزال تحت النير الاستعماري الغربي الإنكلو أمريكي.

ولكن السؤال المطروح: ماهو مفهوم الإجماع العربي في قاموسهم؟

هل الإجماع العربي هو الانصياع للمخططات الأمريكية وتنفيذها في المنطقة؟ وهل هو ضرب الدول الممانعة والمقاومة التي وقفت ضد المشروع الأمريكي الصهيوني في المنطقة؟ وهل هو تفتيت التضامن العربي، وضرب الدول المستقلة والنيل من سيادتها؟ وتقسيمها إلى دويلات؟ هل هو نشر الفتنة الطائفية والإرهاب في منطقتنا؟ هل هو التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتناسي حق العودة للشعب الفلسطيني؟ هل هو بناء ما يسمى دولة الخلافة الإسلامية_ حسب مفهومهم الارهابي، ونشر الفكر الوهابي، وخلق النزاعات والحروب الطائفية؟ وهل هو في نهاية المطاف فرض الاستسلام على العرب، وخلق سايكس بيكو جديد وإعادة رسم خريطة المنطقة وتقسيمها إلى دويلات وكانتونات عرقية وطائفية، ونشر الفوضى والإرهاب، والانصياع وراء التيار الديني المتطرف، وتدمير الثقافات والآثار وضرب كيان الدولة العلمانية الحديثة، وإعادة المنطقة إلى عهود الحكم العثماني المتعفن؟ كما حصل في ليبيا واليمن وتونس ومصر، وما يحدث في سورية والبحرين وامتداد الإرهاب والتطرف إلى بقية دول المنطقة،

حتى أن هذه الدول التي تتبجح بالإجماع العربي المزيف لن تكون بمنأى من موجة الإرهاب والتطرف التي تحاول تنفيذه على الواقع بتخطيط أمريكي صهيوني يفرض على المنطقة وينهي النزاع العربي الإسرائيلي، بالاستسلام وكسر شوكة العرب وقوّتهم إلى 100 سنة. وبذلك تكون إسرائيل هي الدولة القوية والمنفذة في المنطقة وهم لن يكونوا بمعزل عن هذا المخطط. ولكنهم _كما يتضح_  لا يمانعون من تنفيذ ذلك، وخاصة بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران ورفع الحصار الجائر عن الشعب الإيراني، وتوجّه أوربا والغرب إلى المزيد من عقد الاتفاقيات التجارية مع إيران وتبيان القدرة الاقتصادية والتكنيكية وتطور التكنولوجيا فيها، مما دفع الأنظار كلها إلى إيران الجديدة، وهذا ما أغضب حكام الخليج والدولة الصهيونية التي كانت ولاتزال ضد الاتفاق السلمي النووي، ومع ضرب إيران عسكرياً وشن الحرب عليها.

ولكن هذا لم يتحقق. أهذا هو هدف الإجماع العربي الذي تتغنى به بعض دول الخليج وتركيا، بدعم صهيوني أمريكي؟. وما لم يتحقق لهذا الإجماع العربي من ضرب سورية، بعد أن طردوها من الجامعة العربية وهي من أوائل المؤسسين لها، وباءت كل محاولاتهم بالفشل لضرب الكيان السوري الموحد، وضرب الوحدة الوطنية، مع العلم أنهم وضعوا كل طاقاتهم المالية والعسكرية والتأجيج الديني والطائفي، وصرفوا عشرات المليارات لضرب سورية وموقفها الصامد والمقاوم.

نعم، لقد نجحوا في تدمير البنية التحتية وضرب المنشآت الاقتصادية والثقافية والطبية والسكك الحديدية، ودمروا المدارس والمستشفيات والمعامل والكنائس وحتى الجوامع. ولكن لم يتمكنوا من تدمير المواطن السوري والوحدة الوطنية وتضامن الشعب والجيش في التصدي لكل المخططات، وفشلت الحرب الطائفية والفتنة التي روجوا لها على مدى خمس سنوات، وفشلوا في الميدان وها نحن نرى تقهقر المجموعات الإرهابية المسلحة من العديد من البلدات والمدن، بفضل صمود الجيش العربي السوري وتضامن الشعب معه ودعم الحلفاء والأصدقاء في العالم.

وقد وردت  تصريحات مؤخراً بأن السعودية أوقفت الهبة السعودية المزعومة والمشروطة منذ البداية للبنان، لتقوية الجيش اللبناني وتمكينه من الصمود ضد الإرهاب والإرهابيين. ولقد تبين أن السعودية لا تريد فعلاً محاربة الإرهاب، وقد بررت موقفها بأن لبنان خرج عن الإجماع العربي؟ نعم، لبنان رفض أن يكون شاهد زور في تدمير سورية وتقسيمها وإغراقها بالمجموعات الإرهابية المسلحة، ورفض أن يستسلم للمجموعات المسلحة الإرهابية على أراضيه وأن يكون لبنان مرتعاً للإرهاب والإرهابيين والتآمر على سورية، وضرب الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية والفلسطينية. لقد دفع لبنان ضريبة هذه المواقف الوطنية. فلا هبات السعودية والأمريكان ولا التهديد بقطعها سيغير من مواقف الشعوب المناضلة، في مسيرتها من أجل تحرير الأرض. وإرجاع الإجماع العربي إلى أصالته يتحقق بالوقوف مع حق الشعوب من أجل التحرر والاستقلال والتنمية والوحدة الوطنية. والمحافظة على وحدة المنطقة في وجه المخططات الأمريكية الصهيونية. والنصر سيكون حليف الشعوب والمجتمعات المناضلة ضد الإرهاب والتبعية والتقسيم والتشتت.

العدد 1140 - 22/01/2025