الإيديولوجيا..وضرورة تغليب الاستراتيجيات على المهام المرحلية

 الإيديولوجيا بشكل عام، هي، من حيث الجوهر، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمسائل الاستراتيجيات بعيدة المدى، ومن الضروري حتماً التفكير بما هو بعيد المدى. بيد أن هذه المسألة ليست آنية ولا هي قضية ملحة.. إن تغليب مسألة الاستراتيجيات بعيدة المدى بما يعنيه تغليب الإيديولوجيا، سيؤدي، شئنا أم أبينا كما أعتقد، إلى التفريق والتشرذم وعدم إمكانية إقامة حركات تتمحور حول المهام الآنية الملحة.

إن التطور التاريخي يؤكد أن كل مرحلة لا بد من أن تُنبت وتخلق الحركات الاجتماعية التي تعكس مستوى تطورها وتوضح جوهر مهامها الآنية إذاً.. فتغليب الجانب الاستراتيجي البعيد على المهام الآنية، لا يعني إلا الهروب من مجابهة الواقع والتخبط بقضايا مستقبلية لا يتمكن أحد من التأكد منها.

لذا أعتقد أن ما تتطلبه المرحلة في الوقت الراهن، هو حركات مبنية على أساس المهام الواقعية والملحة، على أن تكون مؤسسة على أرضية ديمقراطية تضم داخلها كل القوى والفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في حل تلك المهام بما يخدم عملية التقدم الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، يجب أن لا تكون هذه الحركة منعزلة عن الحركات العالمية الأخرى في النضال من أجل تطور عولمي يخدم مصالح الشعوب ونموها وارتقاءها، ويقف عائقاً ضد انفلات العولمة المتوحشة من عقالها.

أعتقد أن مثل تلك الحركات هي ضرورية جداً ولها اليوم مقدماتها الموضوعية.. والدليل على ذلك هو أنها أصبحت واقعاً ملموساً في الكثير من بلدان العالم في الوقت الذي نَلمح فيه أن الأحزاب، بالمنطوق القديم، لم تعد قادرة تماماً على تلبية تلك المتطلبات التي تطرحها المرحلة الحالية. وإن كل المؤشرات تدل على نمو تلك الحركات وتطورها بشكل واسع، ليس فقط في بلدان الشرق الأوسط، بحكم عوامل عديدة أبرزها الأنظمة الشمولية السائدة، والاتجاه الانعزالي المنغلق الذي تعمل هذه الأنظمة لفرضه على شعوبها بهدف منع تأثير ما يجري في العالم على شعوبنا.. وكذلك بحكم الاتجاهات الماضوية ذات الطابع السلفي التي ترى أن مستقبل المنطقة هو في عودة الماضي.

إن كل ما ذكرناه أعلاه.. هو عوائق جدية أمام هذا التطور الذي تطرقنا إليه، بيد أن كل ذلك لن يستطيع منع الحراك الاجتماعي والفكري والسياسي في تلك المنطقة الذي يسير بشكل حتمي لملاقاة التطور العالمي بأسره.

لقد أثبتت الحياة بشكل صارم أن قيادة  أي مجتمع، بشكل إرادوي، دون الأخذ بالحسبان مختلف الفئات الاجتماعية الموجودة، وأيضاً دون الأخذ بعين الاعتبار المصالح المتنوعة لمختلف تلك الفئات، ومحاولة تغليب مصلحة فئة واحدة سواء اجتماعية أو سياسية على بقية الفئات المجتمعية دون أن تكون هناك أرضية لذلك.. وكذلك إن محاولة إزالة فئات اجتماعية عن طريق اتخاذ تدابير ذات طابع إرادوي سلطوي، أو استئثار فئة سياسية واحدة في المجتمع بشكل قسري، برهنت الحياة، أن مثل تلك المحاولات لن يكون مصيرها سوى الفشل الذريع.. وأنها تلحق ضرراً كبيراً بتطور المجتمع وتضعف بنيته وتلاحمه الداخلي.. وتلحق الأذى ببيئته الاجتماعية وتؤدي إلى تطور ملتوٍ مشوّه يأخذ منافذ لا تخدم التطور بشكل عام.

من هنا نرى أن أي دمج لمنطقتنا في الحركة العالمية المناهضة للعولمة المتوحشة، هو  مرتبط ارتباطاً عضوياً بتحقيق انفراج ديمقراطي عميق في هذه المنطقة.. مرتبط ارتباط عضوياً بأن تجد جميع الفئات الاجتماعية الموجودة في الواقع، أن يكون لها حرية التعبير عن ذاتها بشكل ديمقراطي. حتى تلك الفئات التي تختلف معها بشكل جذري ما دام لديها أرضية اجتماعية محددة. ذاك هو المدخل الأساسي للخروج من سراديب الظلمة والانحطاط التي تعيش فيها المنطقة. ودون ذلك سنبقى طويلاً نتخبط يمنة ويسرة دون أن نجد طريقنا نحو النور.

فإذاً، حل مشاكل شعوب منطقتنا، والمسائل الاجتماعية للشباب والنساء والعمال.. إلخ، ومسائل التنمية الاقتصادية والتعليمية والقضائية.. إلخ، كل ذلك مرهون بمسألة دمقرطة المجتمع.. مرهون باختيار الطريق الصحيح للتطور بشكل عام.. مرهون بأخذ قوانين التطور الاقتصادي والاجتماعي بالحسبان، لا بالقفز عليها.. مرهون بحرية الاعتقاد وحرية الرأي.. ومرتبط بالاندماج في الحركة العالمية المناهضة للعولمة المتوحشة.. ومرتبط أيضاً بحل مسائل البيئة التي تصبح ملحة أكثر فأكثر.. وهي مرتبطة بمصير البشرية بأسرها. إنها معركة ليست محلية.. وإنما هي معركة عالمية لها طابعها المرتبط بالمرحلة التي تعيشها البشرية، والخاسر الأكبر هو من لا يستطيع فهم ذلك، إذ سيتحول إلى شبح ماضوي ينتهي مع الزمن.

العدد 1140 - 22/01/2025