… يبقى المحرك الطبقي هو الأساس

نشرت صحيفة (النور) في العدد 707 مقالة هامة للأستاذ صريح البني تحت عنوان (مازالت الأولوية للمسألة الوطنية). مقالة تستحق القراءة والتمعّن، فهي تطرح أفكاراً هامة تستحق التعمق فيها وخاصة في هذه المرحلة التي يمر بها وطننا. عنوان المقالة يوحي بأهمية الأفكار المثارة: الأولوية للمسألة الوطنية… فعلاً، فمنذ أكثر من قرن يدور صراع متعدد الأشكال حول هذا المفهوم ومازال شعبنا يتوق لدولة وطنية، علمانية، ديموقراطية وعادلة، دولة يشعر فيها الجميع أنهم متساوون في الحقوق والواجبات، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية، أو الاثنية أو السياسية.

تكتسب مقولة الحفاظ على الدولة الوطنية الآن أهمية أكبر، لأن ما يجري على أرض سورية يهدف أساساً إلى تدمير هذه الدولة وتشظّيها على أساس ديني / طائفي أو قومي. جاء في المقالة وبحق (تأسيس الدولة هو أعظم منجزات شعبنا رغم عدم نضوجها وإن الاولوية هي لاستعادتها وحمايتها وتطويرها مدنياً، ديموقراطياً واجتماعياً)، وأضيف: وعلمانياً.

لكن المقالة تثير في الوقت ذاته بعض الأفكار والمقولات تستدعي التوقف عندها، وتتطلب من القوى السياسية والمهتمين متابعتها ومحاولة الإجابة عليها. سوف استعرض بعض الأفكار مراعياً التسلسل الوارد في المقالة.

مدنية وعلمانية غير مكتملتين

جاء تحت هذه الفقرة: (يظهر الظلم الاجتماعي، بأبرز صوره، في التمييز المستمر بين المرأة والرجل…

إن أحد أكبر عيوب تطورنا منذ الاستقلال هو ضعف اهتمام القوى السياسية بهذه المسألة المركزية…إن أهم ما يسهم في تقدم مجتمعنا هو تحرير المرأة التي لو انتبهنا اليها لانجذبت قوى أكبر إلى عملية المقاومة المطلوبة لظاهرة داعش الإرهابية الكارثية).

بداية، لايمكن إنكار الظلم الذي يلحق بالمرأة ، وأهمية مساواتها بالرجل في المجالات الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية المدنية. لكن لا أعتقد اأن الظلم الاجتماعي يظهر بأبرز صوره في هذا المجال، وإنما يتبدى،كما أرى، في الهوة بين من يملك ومن لا يملك، في شكل توزيع الثروة الذي من مفرزاته الظلم الذي يقع على المرأة. بمعنى أن عدم مساواة المرأة وظلمها هو الفرع وليس الأصل. هناك دول حققت إنجازات كبيرة مي مجال حقوق المرأة، لكن عدم المساواة بالرجل قائم بفعل النظام الاقتصادي الاجتماعي لتلك البلدان.

إضافة إلى ذلك، من الهام الإشارة إلى أن الأحزاب والقوى اليسارية السورية حملت لواء مساواة المرأة وتحررها منذ سنوات ما بعد الاستقلال. من يراجع مثلاً برامج الحزب الشيوعي السوري منذ عام 1936 يجد، بوضوح، فقرات أساسية تقول بتحرر المرأة. من جهة أخرى لابد من الإشارة إلى أن هذه الأحزاب والقوى تقاعست في النضال حتى من أجل تطبيق ما نصت عليه برامجها في مجال تحرر المرأة ومساواتها.

جاء في الفقرة ذاتها: (إن مشروع بناء الدولة ليس إيديولوجيا. إن الطابع المدني يتطلب أيضاً الفصل بينه وبين العقائد كلها وليس الدين فقط. أما الوظيفة الطبقية للدولة فينبغي العمل على إلغائها وليس الانتقال من سيطرة طبقة أو فئة لأخرى).

حسب معرفتي المتواضعة فإنه منذ انتهاء تشكيلة المجتمع المشاعي وظهور الطبقات برزت الإمبراطوريات والدول الوطنية تعبيراً مكثفاً عن مصالح مختلف الطبقات والفئات بأشكال مختلفة. كيف يمكن إلغاء الوظيفة الطبقية للدولة أو القفز فوقها؟ أخيراً، هل هناك دولة لا تقوم على أساس إيديولوجي؟ أعتقد أن المسألة تنحصر في كيفية ممارسة هذه الطبقات والفئات الحاكمة لوظيفتها. هل بشكل قمعي أم تداولي؟ تلك قضايا شائكة تحتاج إلى دراسات خاصة.

عودة النزعات الإمبراطورية تهدد استقلالنا من جديد

حبذا لو توسع، تحت هذه الفقرة، في إيراد أمثلة أخرى عن النزعات الإمبراطورية الأخرى وليس التركيز على العثمانية أو السعودية. تبين الأحداث الجارية الآن أن الغرب (أوربا) عموماً لديه نزعات امبراطورية توسعية، يغلفها بشعارات مختلفة من أجل السيطرة على مقدرات البلدان والشعوب. مع ملاحظه أن هذا الغرب ذاته هو ديموقراطي إلى حد بعيد في سياسته الداخلية (ضمن دوله الوطنية) لكنه استعماري توسعي وقمعي في سياسته الخارجية. معادلة تستحق التوقف عندها.

كما جاء في هذه الفقرة: (..دولة مستقلة، شأن شعوب الأرض جميعها، دون وصاية أو هيمنة جيرانها الإقليميين أو غيرهم). مطلب محقّ ويجب النضال لأجله. لكن السؤال الذي يتبادر للذهن، ضمن مانشهده من تقاطع /تشابك مصالح الدول وربما تداخلها، إقليمياً ودولياً، هل هناك دولة أو دول في القارات الخمس لا تخضع بشكل من الأشكال للوصاية؟ وإن كان ذلك عبر مختلف التسميات والأشكال: شركات عابرة للقارات، تكتلات اقتصادية أو أحلاف عسكرية واتحاد أوربي و؟..الخ

العامل الدولي في الأزمة

جاء في هذه الفقرة: (إن فكرة العدو الثابت المستندة إلى إيديولوجيا وعقائد معينة هي فكرة ضارة وعقيمة).

توقفت مليّاً عند هذه المقولة. وبرأيي أولاً – قد يكون التوافق الدولي عبر تقاطع مصالحه مفيداً للشعوب في لحظة ما، في حال عرفت هذه الشعوب كيف (تستغله) بما يتوافق ومصلحة دولتها الوطنية. لكن السؤال هل هناك عدو ثابت وآخر متحرك؟ في هذه الحالة في أية خانة نصنف العدو الإسرائيلي أو من يحتل بلداً آخر من أجل ثرواته؟ ماذا عن النزعات الامبراطورية التوسعية الحديثة التي تقف وراء العديد من الحروب والاضطرابات؟ مرة اخرى كيف يمكن أن نفهم أن الاستناد إلى الإيديولوجيا

فكرة ضارة وعقيمة؟ هل هناك دولة دون أسس إيديولوجية؟ الإيديولوجيا باعتقادي هي تعبير مكثف عن مصالح الناس ويجري التعبير عنها بأشكال مختلفة في الدساتير، القوانين وفي شكل توزيع الثروة الوطنية و…

وظائف الدولة و(هوياتها القاتلة)

جاء في هذه الفقرة: (…لاتحتاج الدولة إلى هوية دينية…بل لا تحتاج إلى هوية طبقية لتتطور اجتماعياً أو سياسياً…لا تحتاج إلى تأكيد الهوية الطبقية العمالية والفلاحية لنصف أعضاء البرلمان).

بداية، أتفق مـع الكاتب على مسألة عدم الحاجة إلى تحديد النسب الطبقية للبرلمان (التي قد تكون مبررة في مرحلة من المراحل). ولكن فكرة إلغاء الهوية الطبقية ذكّرتني بمحاولة عبد الناصر عندما برر حلّ الأحزاب وتشكيل ماسمي بالاتحاد القومي كممثل للشعب كله بأغنيائه وفقرائه، إقطاعييه وفلاحيه. هل فعلا لا تحتاج الدولة إلى هوية طبقية؟ هل عرف التاريخ القريب والبعيد دولة دون هوية طبقية بشكل مباشر أو غير مباشر؟ لماذا تشن الحروب وتتصارع الدول فيما بينها؟هل بسبب لون البشرة؟أم أن المحرك للنزاعات: اقتصادي / طبقي وإن اتخذ أحياناً أشكالاً دينية أو عرقية. يجري في الآونة الأخيرة الترويج لمفاهيم صراع الأديان أو الحضارات.. إلخ، من أجل طمس الأسباب الحقيقية والتي هي باعتقادي اقتصادية وطبقية إلى أن يثبت العكس.

من جهتي أعتقد أن المصالح الطبقية مازالت هي المحرك الأساسي للمجتمعات وتطورها.

ختاماً وكما ذكرت المقالة في النهاية إن المطلوب على المستوى السوري للخروج من الأزمة هو بقاء الدولة وترسيخ علمانيتها وديموقراطيتها، دولة لكل السوريين دون أحقاد وثأر، بغض النظر عن انتماءاتهم الإثنية أو الدينية / الطائفية.

أخيراً الشكر للأستاذ صريح على مقالته. ولا أعتقد أنني بهذه العجالة أوفيت المقالة القيمة حقها. أتمنى من آخرين أن يقوموا بذلك أيضاً.. كما أقترح على صحيفة (النور) الدعوة إلى عقد طاولة مستديرة للمهتمين، لمناقشة الأفكار الواردة في هذه المقالة.

العدد 1140 - 22/01/2025