وداعاً دمشق

حين ودّعتك يا دمشق، كنت أعلم أنني أغادر الأرض التي أودعها الله ظلال أمان، وألبسها جميل أثوابه.

حين ودّعتك علمت أنني خارج منك دون وطن… دون هوية… دون اسم، ودون أيّ شيء يثبت انتمائي إلى مدينة الياسمين.

رحلت عنك، لكنّك ما زلت تعيشين في أوردتي، في دمي، في شراييني، ومازال كلّ خطّ من خطوط يدي يرسم أحد شوارعك، وكلّ انحناء في أصابعي يرسم أقواسك وقناطرك، وسقوف بيوتك القديمة.

ما زلت يا دمشق نبضي، وحياتي، وآلهة حبّي.

نعم، رحلت عنك، كما يرحل طفل عن حضن أمّه مرغماً، وكما يرحل عصفور عن عشّه مكرهاً.

أغلقت باب بيتي مغلقاً معه باب ذاكرتي، أغلقته بهدوء كي لا أسمع صوته فيؤلمني أنينه الذي يبكيني كما أبكيك، كي لا أرى دموعه تمتزج بدموعي بحرقة كبيرة.

أتراني بكيتك أم بكيت نفسي؟ حين مشيت في حاراتك، وشوارعك آخر مرّة، وأنا أتحسّس جدرانك وزواياك بعينيّ مودعاً، متأملاً كل ركنٍ فيك بحسرةٍ لا تُحتمل.

رحلت عنك، حاملاً قلبي، ونفسي، حاملاً حقيبةً مليئةً بالأمتعة والملابس والحاجيات، لكنّها خاليةٌ من كلّ أملٍ باحتمال العيش بسعادةٍ بعيداً عنك.

أتراني نذرت نفسي لعشقك فحسب؟ أم أنّ الله نذرك لتكوني محبوبتي، فحسب؟

حين ودّعتك يا دمشق، رأيت يد أمّي تلّوح لي، ووجه أبي يبتسم في وجهي.

حين ودّعتك يا دمشق، ودّعت في نفسي الطّفولة، والشّباب، والشّيخوخة، وكلّ العمر، أتراني لم أنتبه أنّك كنت كلّ شيءٍ في حياتي؟ أم أنّني لم أدرك حقاً ماذا تعني لي دمشق؟ وماذا يعني حين قيل إنّ دمشق هي الموطن الأوّل والأخير.

ودّعتك يا حبيبتي، والأسئلة تملأ رأسي، وتتوالى على ذهني، سؤالاً تلو الآخر، أسئلةٌ كثيرةٌ تلحّ عليّ، تطلب إجابةً سريعةً، وكأنّها تخاف أن يحترق الجواب، بعد طول الغياب، فلا يبقى له معنىً كمعناه ساعة الرّحيل.

ترى هل أعود؟ وهل أراك مرّةً أخرى مرتدية ثوب السّلام؟

ترى هل تستقبلني أحضانك بعدما تركتك في أوج حاجتك لي؟

ترى هل مازلت ولدك؟ أم أنّك تنازلت عن حقك في أمومتك لي، ساعة غادرتك وتنازلت عن حقي في كوني ابنك؟

أجيبيني يا دمشق، دونك كيف أعيش؟

العدد 1140 - 22/01/2025