عندما تجاورك الحرب، اكتب بقلم الكوبيا؟!
مسكين جدي، في حرب الأربتعش كتب على ورقة صغيرة خمس كلمات بقلم (الكوبيا)، وفي تلك الكلمات الخمس حكمة إنسانية جاء فيها: يلعن أبو الحرب موت وذل وجوع!..ولم يكن ليكتب هذه الكلمات لو كانت الحرب وطنية، أو كانت بفلسطين مثلاً، أو كانت دفاعاً عن الوطن، ربما كان تحمس وكتب شيئاً يدعو للفخار!
لماذا يموت السوريون في حرب هذه الأيام؟ وماذا سيكتب جدي لو كان موجوداً فيها؟ وماذا سنكتب نحن الذين نعيش في أتونها ونكتوي بنارها؟!
ببساطة، جدي سيكتب الكلمات التي كتبها عن حرب الأربتعش، ونحن سنكتب مأساتنا: لم نحرر فلسطين. لم نحرر الجولان. لم نحرر إسكندرون.. فهل تضيع البلاد والعباد الآن؟!
لا أعرف كيف خطرت لي الفكرة. فقد قررت: (سآتي بقلم (كوبيا)!)، ولمن لا يعرف، فقلم الكوبيا هو قلم يكتب باللون الأزرق النيلي، يشبه قلم الرصاص ولا يكتب إلا إذا رُطِّب بالبصاق عبر غمس رأسه بطرف الفم من بين شفتين مضمومتين!
خطرت لي الفكرة، وأنا أقطع ساحة الأمويين فجراً فيما دويّ الحرب يشتعل في جهة جوبر، بعد تفجير المفخخات التي سبقت هجوم الأحد الماضي 19 آذار التي هزت المدينة وجبالها. قلت في نفسي: (سآتي بقلم الكوبيا وأكتب شيئاً يشبه ما كتبه جدي قبل أكثر من مئة عام، سأرطب رأس القلم في فمي وأكتب على ورقة صفراء عبارتي الخالدة، ثم أضع الورقة في كتاب يقرؤه أحفادي بعد مئة عام)!!
كانت الفكرة طريفة، ولكني لم أجد هذا القلم. أعطاني صاحب المكتبة قلماً من أقلام الحبر يشبه في لونه لون قلم الكوبيا، وقال لي كعادة التجار:
– كأنه قلم كوبيا.. ممتاز.. ألماني!
جئت بورقة صفراء، وقررت أن أكتب!
يا لَهول الحرب.. ماذا أكتب؟!
وضعت الورقة على صحيفة مطوية، وقررت أن أفعل شيئاً يشبه ما فعله جدي قبل أكثر من مئة عام. وضعت القلم في فمي وكأني أرطبه للكتابة، ورحت أحاول صياغة العبارة المناسبة عن الحرب، فطال تفكيري، وظل القلم في فمي.. وكانت أصوات القصف تترامى من جهة شرق دمشق..
الطيران يمر من فوقي.. أصوات المدفعية تهدر من كل الاتجاهات.. وجاءني اتصال:
القذائف تنهمر فوقنا في باب توما والعباسين.. ثم جاءني اتصال آخر: المجموعات المسلحة تقترب من حماه.. ثم جاءني اتصال ثالث:
– بابا خلّينا نهاجر.. بابا، الله يوفقك خلينا نهاجر!
رميت الورقة والصحيفة.. نعم، لا أريد أن أكتب عبارة تشبه عبارة جدي.. مشيت، ووصلت إلى المبنى الذي أعمل فيه، وأنا أقرر أنني (لن أهاجر مهما حصل)! وفي المصعد نظر الموظفون إلى وجهي بدهشة، وسأل واحد منهم:
– ما الذي حصل أستاذ؟ لماذا صبغت شفتيك باللون الأزرق؟
وقال آخر يحب المزاح:
هل كنت تكتب رواية بقلم الكوبيا؟!