رجل لكل الأزمنة

 على الرصيف العالي أمام سوق الهال القديم، يقف محمود الطويل بين مجموعة من العمال المياومين، فيبدو كعمود كهرباء مصمت، بطقمه الرصاصي الغامق والكرافة التي يحكمها حول رقبته الطويلة أيضاً. فيما يتحلّـق العمال حوله حاملين عُددهم البسيطة، وهو ـ مستفيداً من طوله الفارع ـ يشير بسبابته إلى بعضهم ليصعد إلى بيك أب التويوتا الكبير المركون جانباً، وعيون الباقين شاخصة إلى تلك السبابة الذهبية التي ستمنحه ثمن خبز الأولاد ولو ليوم واحد، فيما كان محمود قد محا من ذاكرته تماماً صورته واقفاً مثل هؤلاء الواقفين أمامه حين جاء المدينة الكبيرة للمرة الأولى.

كلمة (أستاذ) تتردد على ألسنة الجميع، لينبهه كلّ منهم إلى نفسه لربما يروق له فيختاره أيضاً، فيما محمود، الذي ينطبق عليه تماماً لقب الطويل الهبيل، ينفخ صدره مثل ديك حبش ويضبط الكرافة التي تعلّم ربطها على رقبته، بعد أن سلمه المهندس المسؤول بوساطة من رئيس حزب التعاضد الوطني منصب رئيس ورشة العمال العاديين، وهو منصب لم يكن موجوداً، لكن المهندس ابتدعه كرمى لعيون الأستاذ نعسان الذي ساعده كثيراً بصفته صهره أولاً، إذ إن أخته هي الزوجة الثالثة للأستاذ نعسان والمدللة عنده، وثانياً لأنه ولي نعمته الآن بعد أن أقنعه بالانضمام إلى حزبه الجديد المرضي عنه من كل الجهات، ليستطيع مساعدته في تسلق المناصب.

ولأن محمود لم يكمل الصف السادس، وبصعوبة يفك الحرف، فقد كان يحلم باليوم الذي يضع فيه القزمة والكريك جانباً ويقول وداعاً للفقر والتعتير، ويصبح معلماً على أقرانه، ووجد ضالته في المهندس الذي يبحث عن أعضاء جدد للحزب دون تدقيق في المواصفات، والتقت الرغبتان إذ راهن الأستاذ سامح بأن محمود يستطيع سحب معظم عناصر الورشة من العمال معه إلى الحزب، بعد أن يعد كل واحد منهم بمساعدته في تسيير معاملة أو الحصول على رخصة مسدس أو عقار…الخ، ولم يكن اختياره لمحمود عبثاً، ‘ذ إنه، على هبله وغبائه الفطري، يملك مواصفات تميزه عن زملائه من العمال المهاجرين من أنحاء البلاد إلى العاصمة باحثين عن لقمة عيش، فهو عازب وقوي البنية، واأاهم من هذا وذاك أنه كذاب محترف، وهي الصفة الأهم لمن يمكن أن يفيده في مهمة كهذه.

وقد نجحت خطط الرجلين، فمحمود صار رئيس ورشة، ونسي أيام التعتير والتعب، وصار يجلس على كرسي وأمامه طاولة مهترئة، كان يلتقط كل يوم صوراً له خلف طاولته الأثرية ويرسلها إلى أهله ورفاق الطفولة، وحين لاحظ رفاقه العمال انقلاب أوضاعه باتوا يلتمسون منه مساعدتهم في الانتساب للحزب الذي لم ولن يعرفوا شيئاً عنه سوى أن مسؤولهم هو محمود ثم الأستاذ، يدعونهم كل فترة إلى مهرجانات ومؤتمرات في قاعات فخمة، يقال فيها كلام كثير لا يفهمون أغلبه، لكن كل واحد منهم كان يأمل الاستفادة من الحزب في قصة تخصّه، ويقتاتون على وعود محمود، فهم لا يستطيعون الوصول إلى أبعد منه.

حين لاحظ المهندس وصهره الذي يعمل في التعهدات أساساً، لكنه أنشأ الحزب لعدة أسباب أهمها (البريستيج)، ثم تأمين الحماية لنفسه وأملاكه واستثماراته، أن محمود يبدع في مهمته، الكذب، بدأا باستثماره في أكثر من مجال، فصار يساعد الزعيم في أعماله، يؤمّن له العمال والمواد تاركاً لنفسه عمولة من كل صفقة برضا المعلم الجديد.

ثم كلفه الزعيم بترك العاصمة والعودة إلى بلده ليؤسس فرعاً للحزب الجديد هناك، والأهم ليوسع تجارته وأعماله إلى المناطق النائية، وكان أن نجح الرجل هناك أيضاً، صار (الأستاذ محمود) يشغل حالياً أكثر من منصب في الإدارة المحلية والمحافظة والحزب، إضافة إلى إدارته لاستثمارات المعلم الكبير.

وقد استطاع بحدسه العالي وبراعته في مهنته الأساسية أن يجذب الكثيرين إلى صفوف حزبهم، وان يطور ويوسع استثمارات الزعيم، وصار لديه (محمودات) كثر وزعهم على أطراف المنطقة ليعيث فيها نضالاً وشعارات.

ما زال المحمودات يتناسلون في البلاد وفتحت لهم الحرب أبواباً جديدة للاستثمار والانتفاع، والحبل على الجرار.

العدد 1140 - 22/01/2025