أكبر من مسألة «سد النهضة» الإثيوبي
يثير القرار الإثيوبي حول تحويل مياه النيل الأزرق وبناء سد النهضة عليه، موضوع تقاسم مياه النيل مرة أخرى، والعودة إلى إشكالية حصص دول حوض النيل، وكيفية تقاسم مياهه. ولا ينظر إلى هذا القرار معزولاً عن التطورات والمتغيرات الجارية في هذه المنطقة، على أهميته وانعكاساته على طبيعة العلاقات بين دول المنطقة وتحالفاتها أيضاً.
تعود حصص حوض مياه النيل إلى الاتفاقية المنظمة له، والموقعة بين دوله، في مرحلة الاستعمار البريطاني، وبخاصة بين دول المنبع الإفريقية، ودولتي المصب (مصر والسودان). ورغم جلاء البريطانيين عن هذه المنطقة، ونيل دولها استقلالها الوطني تباعاً، فإن اتفاقية توزيع مياهه ظلت قائمة، وشكلت إحدى المسائل الأساسية في العلاقة بين دولها. ويؤكد المختصون في مجال المياه الحاجة الماسة والحياتية الاستراتيجية لكل من دولتي المصب إلى مياه النيل، وبخاصة مصر التي تعتمد اعتماداً كاملاً تقريباً على منسوب مياه النيل (مياه الشرب، الزراعة، الكهرباء، الصناعة). في الوقت الذي تمتلك فيه دول المنبع جميعاً مصادر مياه أخرى (البحيرات، الأنهار، الأمطار الاستوائية الغزيرة)، ولاتحتاج عملياً إلى زيادة حصتها من مياه النيل أو إعادة تقاسمها، بغض النظر عن وفرة المياه الغزيرة في هذه الدول.
واكتسى موضوع إعادة النظر في حصص مياه النيل طابعاً سياسياً في منطقة تشهد متغيرات عديدة، وتختلف توجهات بلدانها وشبكة علاقاتها الإفريقية والدولية وتحالفاها أيضاً. وشهدت دول حوض النيل بين فترة وأخرى، تباينات و(خلافات) عديدة حول مسألة إعادة تقاسم مياه النيل، تزامناً مع التطورات الجارية في هذه المنطقة من جهة، واستخدامها ورقة ضغط من أطراف غير إفريقية من جهة ثانية. وتركزت الجهود الأمريكية مؤخراً وفي سياق محاولتها دخول القارة الإفريقية وتطبيع العلاقة معها، على تعزيز علاقاتها مع دول المنبع المختلفة، توجهاً وتحالفاً لأهداف تتعلق بكيفية التعاطي مع دولتي المصب (مصر والسودان)، وفقاً لطبيعة التطورات والأحداث الجارية فيهما، على كثرتها. كذلك نشطت السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى إقامة علاقات قوية مع دول المنبع، واستخدامها موقع نفوذ وتأثير في الخاصرة الرخوة لدولتي المصب، وورقة ضاغطة على نظامي البلدين (بغض النظر عن توقيع مصر اتفاقية كامب ديفيد)، من خلال توسيع شبكة علاقاتها مع دول المنبع، وزيارات المسؤولين الإسرائيليين المتعددة إلى هذه الدول، والتوصل إلى مشاريع علاقات ثنائية اقتصادية وعسكرية وتبادل تجاري بين إسرائيل وكل دول من دول المنبع، ما أمكنها ذلك.. فضلاً عن التوجهات الإسرائيلية الأخرى المتمثلة في محاولات إقامة علاقات ثنائية (رسمية أو غير رسمية) مع الدول المطلَّة على مضيق باب المندب وجواره، للحيلولة دون استخدامه وسيلة ضغط في حالة نشوب صراع أو خلاف عربي- إسرائيلي (حرب ،1967 حرب 1973 مثلاً). وأكد هذا التوجه الزيارات الأخيرة التي قام بها وزير الخارجية الإسرائيلية السابق أفيغدور ليبرمان للعديد من هذه الدول، وتشجيعها على إقامة علاقات ئنائية، والاستفادة من التكنولوجيا والإمكانات الاقتصادية والعسكرية الإسرائيلية، إضافة إلى دور إسرائيل الفاقع في انقسام السودان، وإقامة علاقات إسرائيلية رسمية مميزة مع دولة جنوب السودان، والدخول على مجال الأوضاع الداخلية السودانية والإشكاليات التي يواجهها السودان، وخاصة في إقليم دارفور، وعلى العلاقات بين شمال السودان وجنوبه أيضاً.
وفي هذا السياق ينظر إلى أزمة بناء سد النهضة التي تعود إلى منتصف العام ،2010 عندما قررت ست من دول منابع النيل (أثيوبيا، أوغندا، كينيا، تنزانيا، راوندا، بوروندي) التوقيع في أوغندا على معاهدة جديدة لاقتسام موارد النيل المائية، وهذا ما رفضته دولتا المصب، لما له من تأثير في الحصص التاريخية لهما، والتي تقدر ب 5,5 مليار متر مكعب لمصر، و5,18 مليار متر مكعب للسودان.
ورغم عدم التوصل إلى (تفاهم) جديد بين دول حوض النيل، وخاصة بين دول المنبع على اختلافها، ودولتي المصب، فإن إثيوبيا دشنت في نيسان عام 2012 مشروع سد النهضة، الذي يتوقع أن يحجز 63 مليار متر مكعب من المياه، وسيكون له تأثير سلبي على حصة مصر المائية من فيضان نهر النيل، ومواعيد وصولها إلى بحيرة السد العالي، مما سيؤدي إلى (تبوير) نحو مليونَيْ فدان من الأراضي الزراعية، إضافة إلى حدوث مشاكل في مياه الشرب والزراعة والصناعة، نتيجة انخفاض منسوب المياه في نهر النيل.
واستدعت تبعات إقامة هذا السد، تشكيل لجنة ثلاثية إثيوبية، مصرية، سودانية، للعمل على الوصول إلى حلول (توافقية) لا تؤثر في الحصص المائية، أو منسوب تدفق مياه النيل وفيضاناته، ودراسة التأثيرات الفعلية السلبية لهذا السد على كل من مصر والسودان. وفي الوقت الذي أعلنت فيه السودان تأييدها لحقوق مصر التاريخية في مياه النيل وعدم المساس بالاتفاقية الموقعة بين دول حوض النيل (المنبع والمصب)، أظهرت المواقف المصرية تباينات وخلافات في وجهات نظر القاهرة، بين حكومة هشام قنديل (الإخوانية) والخبراء المختصين المصريين الذين أكدوا حجم الأضرار التي ستلحق بمصر بسبب إقامة هذا السد.. ولهذا مدلولاته السياسية أولاً، كذلك طبيعة علاقات مصر الإخوانية مع الولايات المتحدة، وتالياً إسرائيل ثانياً، ومحاولة حل المشكلة عبر تفاهمات (ترقيعية) وغير جذرية ستفتح الباب لاستخدام هذه الإشكالية من أطراف باتت مؤثرة في دول المنبع ثالثاً.
وبغض النظر عن نتائج اللجنة الثلاثية وحلولها، فإن إعادة طرح هذه الإشكالية، بُعيد المتغيرات التي حدثت في العالم العربي، وبضمنها مصر، يؤكد الأهداف الحقيقية والاستراتيجية لموضوعة مياه النيل واستخدامها ورقة أساسية في طبيعة علاقات دول الحوض (الحوض والمصب) من جهة، وفي التلويح بهذه الورقة من الأطراف التي عملت على تعزيز حضورها، وتالياً تأثيرها في هذه المنطقة من جهة ثانية.
في الوقت الذي تؤكد فيه هذه الإشكاليات (المائية) مؤقتاً، وغير المائية أساساً، بل طبيعة علاقات وتحالفات دول الحوض، حجم التأثير العربي بمقدراته وإمكاناته الهائلة، وبخاصة الدول الغنية مالاً ومصدراً للطاقة.. إلخ، والضعيف إلى درجة عدم التأثير في هذه الإشكاليات، وارتهانه للتبعية (الغربية)- الأمريكية، وصمته غير المبرر عن النشاط الإسرائيلي في دول الجوار العربي.. وانصراف هذه الدول منفردة لاستثمارات عقارية وتجارية وغيرها في البلدان الأجنبية الأخرى، وتجاهلها عن قصد أو عدم إدراك وفعل، بسبب ماهية علاقاتها وتحالفاتها، وخاصة مع الولايات المتحدة وأدواتها، عن استثمار إمكاناتها في سياق تعزيز العلاقات العربية مع جوارها، وهو ما تجاهلته لأسباب عديدة الجامعة العربية أيضاً.
فالمسألة وإن بدت راهناً إقامة (سد النهضة) الإثيوبي، فإنها تؤشر إلى سلبيات التعاطي العربي (دولاً وجامعة) وإلى الأهداف الحقيقية التي تتجاوز موضوعة السد الإثيوبي في الأوقات المناسبة للآخرين، وهو هو الأهم والجوهري أيضاً.