جولة كيري.. المفاوضات والانحياز الأمريكي
عاد جون كيري، وزير الخارجية الأمريكي، في زيارة طارئة للمنطقة، شملت رام الله والقدس وعمان، في مسعى جديد لاستئناف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية المتوقفة منذ أسابيع. وتأتي هذه المحاولة الأمريكية إثر إعلان المفاوضين الفلسطينيين عن وصولها إلى طريق مسدود، بسبب الممارسات الإسرائيلية الأحادية الجانب والمتناقضة مع أبجديات العملية التفاوضية، وتجاهلها الوعود الأمريكية التي استأنف الفلسطينيون على أساسها جولات المفاوضات الأخيرة. كذلك إصرار تل أبيب على مواصلة سياستها في قضم الأراضي الفلسطينية وتوسيع المستوطنات، والتحديد الإسرائيلي المسبق لطبيعة الحدود الفلسطينية في وادي الأردن. وخلافاً لزيارات كيري السابقة، فإن جولته الأخيرة شهدت لقاءات متكررة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وصولاً إلى تمديد زيارته بهدف (تهدئة) الأوضاع ومحاولة استئناف المفاوضات مرة أخرى. كذلك تصدّر قضايا الخلاف الرئيسية (الاستيطان، والحدود، والقدس.. إلخ) غيرها من المسائل الثنائية، وبضمنها مسألة الأسرى (المعتقلين قبل اتفاق أوسلو وبعده أيضاً)، فضلاً عن قضية اللاجئين (يمثلون أكثر من 65 بالمئة من الشعب الفلسطيني) التي لم تناقش بعد تفاوضياً، والخلاف الجوهري حولها فلسطينياً وإسرائيلياً، استناداً إلى القرار الدولي رقم 194. فقد واصلت حكومة نتنياهو سياسة الاستيطان الممنهج والواسع، وصادرت الأراضي الفلسطينية بقراراتها المتكررة عن عطاءات وتراخيص بناء في عموم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ،1967 وبخاصة القدس الشرقية، والتي تمس أصحاب الأرض وسكانها مباشرة من جهة، وتنتهك المعاهدات والقوانين الدولية التي تحرم التغيير الديمغرافي في أية أراض محتلة من جهة أخرى، فضلاً عن أنها توجه إسرائيلي يهدف إلى فرض الوقائع وتهديد الأراضي الفلسطينية وتحويلها إلى كانتونات معزولة، بما يحول عملياً دون إقامة دولة فلسطينية مستقبلاً. كما ترفض حكومة نتنياهو استمراراً للنهج التوسعي الاستيطاني الإسرائيلي، تحديد الحدود النهائية الفلسطينية – الإسرائيلية، بما يعني رفضها عملياً العودة إلى حدود عام ،1967 إضافة إلى إصرارها على بقاء القدس موحدة تحت السيادة الإسرائيلية، خلافاً لقرارات الأمم المتحدة، وللاتفاقيات الثنائية السابقة، وبضمنها اتفاق أوسلو (على علاته ونواقصه). وازدادت الخلافات التفاوضية حدة مع إعلان حكومة نتنياهو عن إقامة جدار فصل عنصري جديد عازل، بين الأردن والأراضي الفلسطينية، ويؤسس لحدود توسعية إسرائيلية مصطنعة جديدة، تماماً كما فعلت من خلال بناء الجدار العازل غرب الأراضي الفلسطينية، وبضمنها القدس الشرقية.
ورغم التعهد الأمريكي الذي قطعه كيري في مطلع جولاته وجهوده حول وقف الإجراءات الأحادية، والتي على أساسها عاد الوفد المفاوضي الفلسطينية إلى طاولة المفاوضات (تلقى هذه العودة، وهذه المفاوضات معارضة فلسطينية حزبية وشعبية واسعة)، فإن السياسات الإسرائيلية التوسعية خصوصاً، والتفاوضية عموماً، قد أوصلت إلى إيقاف عملي للمفاوضات. وعكست نفسها مباشرة وللمرة الأولى، في تقديم كبير المفاوضين الفلسطينيين د. صائب عريقات استقالته إلى الرئيس عباس، معللاً أسبابها بعدم إمكانية التفاوض في ظل هذه السياسة الإسرائيلية، وتضاؤل ما يمكن التفاوض عليه وانعدامه.
وتزامنت هذه الحالة (التفاوضية) الأخيرة والمتوقفة حالياً، مع إعلان الفرق الطبية السويسرية المعنية نتيجة تحاليل رفات الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات وأسباب وفاته، وهي تؤكد تسممه بمادة البولونيوم، وأنها عمل إجرامي، وتأكيد الأطباء الروس صحة هذا التحليل، واتهام اللجنة الفلسطينية المعنية بهذا الملف إسرائيل بأنها وراء اغتيال عرفات.. وما أحدثه ذلك من موقف شعبي ورسمي فلسطيني تجاه إسرائيل وسياساتها، وكيفية تعاطيها مع الآخرين، وبضمنهم عرفات، وما يمثله وطنياً.
كيري الذي يعلم تماماً أسباب مأزق المفاوضات وتوقفها (رغم وعوده بالحل النهائي خلال تسعة شهور)، لم ينتقد الاستيطان، الذي وصفه بأنه غير شرعيّ ولم يُدنْهُ، بل طالب بتحديده، لا بوقفه! وأرفق هذا الانحياز الأمريكي الفاقع بالتحذير من انتفاضة فلسطينية ثالثة، وهو يعلم قبل غيره تداعياتها محلياً ودولياً. كما أشار إلى وعود جديدة (منح للأطراف المتفاوضة الفلسطينية والإسرائيلية)، بهدف استئناف المفاوضات!
وتضاف هذه الوعود الجديدة في جولة كيري إلى وعوده الجوفاء السابقة، التي مهدت لاستئناف المفاوضات، دون جدوى تفاوضية، ولا تحمل آليات عمل، ولا تحديداً فعلياً لماهية الدور الأمريكي، ومدى تأثيره على الطرف الإسرائيلي، ومدى تطبيقه لقرارات المجتمع الدولي ذات الصلة، الأمر الذي يؤشر فعلاً إلى احتمال قيام انتفاضة فلسطينية ثالثة، رداً على هذا النهج القديم – الجديد الإسرائيلي، وفي حدود ليست قليلة، على (التراخي) الفلسطيني الرسمي، عبر عودته للمفاوضات، المتوقفة منذ سنوات، استناداً إلى الوعود الأمريكية التي لم تثمر عملياً.
ما بين محاولات كيري الساعية إلى تهدئة الإشكالية التفاوضية والوطنية على المسار الفلسطيني والمتزامنة مع المحاولات الأمريكية لحل ملفات الشرق الأوسط الأخرى (الإيرانية، السورية.. إلخ)، تبرز مرة أخرى، ازدواجية المواقف الأمريكية وانحيازها، واستفادة إسرائيل من (عجقة) هذه الملفات التي تواجهها الإدارة الأمريكية، ومن الحالة العربية الرسمية السلبية بعيد سنوات ما يسمى (الربيع العربي)، وتظهر تجلياتها في سلبية جولات المفاوضات الأخيرة ومرارتها وأسباب فشلها أيضاً.