من الصحافة العربية العدد 603

وهزمت تركياً سياسياً!

 السؤال هو: أين هزمت تركيا؟ وتأتي الإجابة مفتوحة لتشمل كل سياساتها الإقليمية. فقبل أيام كان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو في بغداد، مؤكداً أنهم اجتازوا القطيعة، بعد أن ذهبوا إلى أقصى ما يمكنهم الذهاب إليه بالاتجاهات المعاكسة، مع ترك النهايات سائبة من دون أدنى قدر من السيطرة. فأدركوا أنهم لم يستوعبوا الوضع العراقي، على الرغم من مصالحهم الاستراتيجية فيه، لأن الشخصيات التي راهنوا عليها لم يتعدَّ تفكيرها النمط (الإخواني) السائد في أنقرة، أو من مستوى الكفاءات المتدنية، أو ممن لا يهمهم العراق ومستقبله، وهؤلاء لا يمكن التعويل على ما يفكرون به وفيه ولا على قدراتهم.

مما كان يثير الدهشة أن تصريحات كبار المسؤولين الأتراك غالباً ما توصف بـ(النارية)، وما تلبث أن تخبو وتتلاشى قبل أن يبدأ العد العكسي. وهذا ما حدث مع إسرائيل والعراق، وتذبذب التصريحات حول سورية، وعدم ضبط الأعصاب حول الوضع المصري، وتحفّظ وضبط كلمات غير اعتيادي تجاه كل ما هو إيراني. والشيء الوحيد الذي بقي متماسكاً هو تفادي التقاطع اللفظي مع مواقف مراكز الثقل الخليجية، التي يشكل التقاطع معها خسارة لا يمكن لتركيا تعويضها، خصوصاً في ظل سياسة إيرانية لا يمكن الاستهانة بها في كل الظروف والمعطيات، وتشابكات داخلية من غير المنطق تجاهلها على المدى المنظور.

السياسة التركية تجاه العراق كانت مبنية على حسابات غير دقيقة، فتركيا لا تستطيع مقاطعة العراق، وإن فعلت فإنها ليست قادرة على الاستمرار، وقصة الدفاع عن شريحة من العراقيين لم يعد لها أساس حقيقي أمام التبادلات التجارية الضخمة والاستثمارات وحركة رؤوس الأموال وتشغيل الشركات، ولا يمكن لإقليم كردستان أن يلبي الطموحات التركية في كل العراق. لذلك، يمكن القول إن سياسة السلاطين الثلاثة تجاه العراق قد فشلت، واستبعد أن يطلب العراق منهم عوناً أمنياً، عدا ما يمكن أن يقدموا من (معلومات استخباراتهم)، وتقييد حركة المعارضين المتاحة لهم الحركة حالياً.. فالأوراق العراقية أقوى كثيراً من الأوراق المصرية.

السياسة الخليجية والمصرية والأردنية والإيرانية والعراقية، غالباً ما تتفادى التصعيد اللفظي تجاه المفاصل والزعامات القيادية الخارجية التي تختلف معها، عدا حالات خاصة، على عكس سياسة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، فغالباً ما يطلق العنان للأوصاف التي يريد إطلاقها على الآخرين، يرافقه هدوء نسبي لرئيس الجمهورية ووزير الخارجية نوعاً ما. وإلا لمصلحة من تعادي السياسة التركية القيادة المصرية التي تتمتع بدعم شعبي وخليجي لا مثيل له؟ ووفق أي حسابات قالوا أكثر من مرة إنهم ليسوا مستعدين لقبول أكثر من 70 – 100 ألف لاجئ سوري وسيكون لهم موقف صارم، وقد وصل عددهم إلى نصف مليون لاجئ؟

المحاولة التركية للوصول إلى حل سياسي مع حزب العمال الكردستاني فاترة، والاتفاق على نقل مقاتليه إلى إقليم كردستان العراق لن يستمر طويلاً، بحكم الاختلاف الكبير بين مصالح الطرفين وخططه وأهدافه، والساحة السورية باتت أكثر تعقيداً، والمناورات الإيرانية تزداد قدرة واتساعاً على حساب تركيا، والمراهنة على تماسك حركات الإخوان في شمال إفريقيا خاسرة، والنظرة العربية تجاه التحزب التركي ومساندة تنظيم الإخوان الخارجي تزداد تحسساً، والاتحاد الأوربي اكتشف تناقضات تركية ومواقف متضاربة تؤدي إلى عدم التعاطف مع الاندماج، والقيادة الروسية تراقب الاضطراب التركي بارتياح يجعلها أكثر اطمئناناً على مناطق نفوذها.

لقد أخطأ الفريق الثلاثي التركي (رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الخارجية) بتعريضه مصالح الدولة العليا للضرر، بسبب الحماس الحزبي لصالح حركات الإخوان في العالم العربي، فالعرب حالياً من أكثر الشعوب رفضاً للزعامات الأجنبية، التي تحاول أن تفرض نفسها على ساحاتها، ويخطئ من يعتقد أنه قادر على كسر هذه المعادلة التي عززتها الأفكار والنظريات القومية. ومن هنا يمكن فهم الخلاف العربي – الكردي على هوية صلاح الدين الأيوبي، فكل يحسبه منه!

ربما كنت أتمنى النجاح لهدوء الرئيس عبد الله غل وبساطته وتواضعه، والوجه البشوش لوزير خارجيته، ولبعض خطب رئيس الوزراء الثورية، لكنني لم أجد دليلاً واحداً على نجاح بسيط في سياسات تركيا الخارجية، وكل ما حققوه في السنوات الأولى لحكم الإخوان خارجياً، تحول إلى الفشل، ومن يجد خلاف ذلك فالصفحات مفتوحة، فلا يأخذكم بسياستهم ومنجزاتهم الغرور يا (إخوان العرب).

وفيق السامرائي

(الشرق الأوسط)، 15/11/2013

 

الائتلاف السوري: مُبتلى بالمعاصي.. يُفتضح ولا يستتر!

(مَنْ يهُنْ يسهل الهوان عليه)، قال أبو الطيب المتنبي ذات يوم، فاختصر في شطر واحد شريحة إهانة واستهانة وهوان ومهانة، واسعة عريضة متعددة، سوف تطبع الكثير من سمات شخصية المُذلّ المُهان؛ في السياسة بادئ ذي بدء، ثمّ في الاجتماع الإنساني عموماً، بما ينطوي عليه من تعاقدات اقتصاد ومال وأعمال، وما يشترطه من أنساق سلوك، فضلاً عن ميادين تربية وثقافة وفلسفة.

 الشطر الثاني، من البيت إياه، يستكمل توصيف العاقبة التالية لامتهان الذات، وبالتالي ابتلاع المذلة والتطبّع عليها، وفيها: (ما لجرحٍ بميّت إيلام)؛ كما يقول أي رصد منطقي لسكنات جثة هامدة!

ولكي يكتمل انطباق بيت المتنبي على حال المعارضة السورية الخارجية، و(الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) بصورة أولى، خاصة في هذه الأيام، بعد سلسلة (الإنجازات) الكبرى المتمثلة في واقعة الصفعة، و(الموافقة المشروطة) على حضور مؤتمر جنيف ،2 وتشكيل الحكومة الائتلافية برئاسة أحمد الطعمة؛ لا مفرّ من العودة إلى بيت الاستهلال في قصيدة المتنبي: (لا افتخار إلا لمَنْ لا يُضام/ مدركٌ أو محاربٌ لا ينام). هذا في نطاق الكرامة والإباء والشمم (اقرأها عند غالبيتهم الساحقة هكذا: زلفى وملق ونفاق…)؛ وليس في صدد المعاصي الأخرى الكثيرة، السياسية والمالية والسلوكية والأخلاقية، التي ابتُلي بها الائتلاف، بسبب ابتلائه لنفسه بنفسه، وليس بسبب أية بلوى ناجمة عن أيّ بلاء!

والحال أنّ الصفعة ـ التي تلقاها لؤي المقداد (عضو الائتلاف، والذي يسير لقبه الرسمي هكذا، ما شاء الله: (المنسّق الإعلامي والسياسي للجيش السوري الحرّ!)، من أحمد العوينان العاصي الجربا (الذي يتولى هذه المسؤوليات الجسام: إنه أحد شيوخ عشيرة شمّر، وعضو الأمانة العامة للمجلس الوطني السوري، ورئيس الائتلاف)، لم تكن القشة التي قصمت ظهر البعير (القاعد القعيد، أصلاً)؛ بل كانت ذلك الدبوس، الصدئ مع ذلك، الذي فقأ الدمل، فأخرج إلى العلن ما كان خافياً فيه من قيح تجمّع طيلة أسابيع وأشهر، حتى تضخّم وتدرّن وتسرطن. ولم يكن ينقص هذا الائتلاف، في صيغة مهانة الذات التي انحطّ إليها، وفي المستوى البذيء من الاستهانة بآمال السوريين وآلامهم؛ إلا اصطدام شيخ عشيرة بمحارب ضدّ طواحين الهواء، ولجوئهما إلى اللغة الوحيدة الجديرة بهما، معاً: الصفع واللطم والركل والرفس!

ما يزيد الطين بلّة، والفضيحة قباحة، أنّ هذا الاجتماع المهيب كان قد صال وجال حول (لاءات) المشاركة في جنيف ،2 وتنافخ أعضاؤه ملء رئاتهم وأفواههم وألسنتهم حول المشاركة أو المقاطعة، و(لحس) البعض تصريحات سابقة ساجلت ضدّ الذهاب إلى المؤتمر (بينها ذاك الدراماتيكي السوبرماني الذي نطق به ميشيل كيلو، رئيس (كتلة اتحاد الديمقراطيين)، من أنه لن يذهب شخصياً إلى مؤتمر جنيف بالشروط الحالية، حتى وإن قطعوا رأسه؛ وأنه سينصح رئيس الائتلاف بعدم المشاركة)؛ ثمّ صوّتوا على الذهاب (المشروط)… كأنّ ائتلافهم، أو سادة ائتلافهم ممّن تعاقبوا على رعايته وتمويله وتوجيهه، يمتلكون أصلاً حق الاشتراط، أو فرض (لا) واحدة يتيمة. أو كأنّ (الشروط الحالية)، التي جعجع البعض حول رفضها بالأمس، تغيّرت اليوم فانصاعت واشنطن وموسكو لحزمة شروط جديدة فرضها الائتلاف.

صنف آخر من القيح، الذي فقأته صفعة الجربا، كان حكاية تشكيل (حكومة للمعارضة)، وإطلاق صفة (الإنجاز التاريخي) على خطوة قيل إنها تتوسل (الكفاءات) و(الخبرة التكنوقراطية) الصرفة، فانتهت إلى سلسلة من المهازل، والمزيد من إضافة الإهانة على جراح السوريين. فما الكفاءة التكنوقراطية التي اكتشفها الائتلاف في شخص عمار القربي (طبيب الأسنان)، لكي يتولى حقيبة الداخلية؛ إذا تغاضى المرء عن سؤال أكبر يخصّ وظائف وزارة كهذه، وأجهزتها؟ وما السجلّ الثقافي الذي يبرر تعيين تغريد الحجلي وزيرة للثقافة، إذا كانت لا تملك من ناصية اللغة العربية ما يتيح لها التمييز بين (الذي) و(اللواتي) عند الحديث عن المعتقلات السوريات، على الفضائيات؟ وأية (تربية)، تعددية وديمقراطية، لكي لا نقول: علمانية وعلمية وعصرية، تلك التي سيعتمدها عبد الرحمن الحاج، وزير التربية والتعليم الإسلامي الإخواني؟ وهل نسبة التصويت على أسماء الوزراء، وحقيقة أنها تراوحت بين الإقرار والرفض، تبدّل من جوهر خطيئة اختيارهم في الأصل؟

 سلسلة أخطاء فاحشة، على أصعدة العمل كافة وبلا استثناء، تكررت وتعاقبت، وكأنّ وضوح الخطأ يستدعي أن يعمهوا فيه أكثر فأكثر، لا أن يجتنبوه. كذلك غرقوا، ويغرقون، في مستنقع الحوارات البيزنطية العقيمة (داخل الإقامات الفارهة، خلال مؤتمرات غامضة التمويل)؛ وأساؤوا إدارة أموال الإغاثة على نحو جعلها تضلّ السبيل إلى مبتغاها الإنساني والكفاحي، فصارت مصيدة كاشفة لمعادن الرجال؛ وتخبطوا في توظيف العلاقات الخارجية، بحيث انقلبت هذه إلى مراكز استقطاب تركية أو سعودية أو قطرية أو فرنسية أو أمريكية أو بريطانية؛ وكان طبيعياً أن ينقلبوا إلى إمّعات عند أمثال روبرت فورد (السفير الأمريكي)، أو إريك شوفالييه (السفير الفرنسي)، لكي لا يرتقي المرء بمستويات اتصالهم، فيشير إلى جون كيري ولوران فابيوس!

إذا ابتليتم بالمعاصي فاستتروا، تقول العبارة المأثورة؛ على نقيض ما يفعل الائتلاف وأهله: كلما زادت المعاصي، خاصة تلك التي من صنع أيديهم، وتفاقم افتضاحهم في أعين السوريين، والعالم بأسره، زادوا غيّاً وضلالاً، وتنابذوا… صفعاً ورفساً!

صبحي حديدي

كاتب وباحث سوري معارض يقيم في باريس

(القدس العربي)، 15/11/2013

العدد 1140 - 22/01/2025