أثر الأزمة على الحياة الاجتماعية
أوضح التقرير الذي قدمه رئيس الوزراء في مجلس الشعب، الواقع الاقتصادي والاجتماعي في ظل أزمة لا تزال جاثمة بثقلها. وبيّن التقرير الجهود الحثيثة التي تبذلها الحكومة للخروج من هذا النفق.
هناك مفارقة كبيرة وهوّة شاسعة، بين الواقع الاجتماعي قبل الأزمة وبعدها. وإذا أجرينا مقارنة أولية دون الدخول في التفاصيل الكثيرة التي تحتاج إلى دراسات أوسع وأشمل، نرى أن أولى التغيرات كانت في التداخلات السكانية في المدن والريف السوري. وهذه التغيرات الديموغرافية الناتجة عن (الهجرة الداخلية والخارجية القسرية والإرادية). أدت إلى مقايضة في الأمكنة لحياة فئات وشرائح اجتماعية متباينة، في أسلوب حياتها وأنماط معيشتها اليومية وعاداتها وتقاليدها وطرائق تفكيرها.
لقد أحدث الفكر الظلامي التكفيري الأسود المُصدّر إلى سورية، خوفاً وقلقاً بين عامة الناس. وإن كان له أثر في بعض جوانبه على النسيج الاجتماعي، بإثارة الفتنة الطائفية الكريهة، ومحاولة تفتيت البنية الاجتماعية التاريخية في مكوّناتها الإثنية والدينية والفكرية. لكن هذه الممارسات والدوافع والأعمال المدعومة (بالمال والسلاح) من الرجعية العربية والدول الأوربية من ضمنها الولايات المتحدة الأمريكية، قد صدّت بقوة وصرامة ومقاومة عنيدة، وكانت أشبه بالجرس الذي ينذر بالخطر.
ومن الإفرازات البارزة التي خرجت من عمق الأزمة إلى سطحها، لا بدَّ من التركيز على (القيم الاجتماعية) والآثار التي تركتها في حياة الناس وما أحدثته من آلام أدت إلى الانهيارات الروحية. وقد نتج عنها أشكال جديدة وتغيرات جوهرية في العلاقات الإنسانية.
أصبح (الجشع والاحتكار) ظاهرة لم تعرفها سورية بهذه القوة والانتشار الواسع منذ عقود. وأُطلقت أكثر من تسمية على هذه الفئة الاجتماعية الدخيلة، منها: (حيتان الأزمات) أو (تجار الأزمات والحروب) أو (سارقو قوت الفقراء) أو (المتاجرون بكرامة المواطنين) وغيرها.
ومن الانعكاسات الأخرى ما أحدثته الأزمة على الأطفال الذين يشاهدون صور القتل والتهديم وتخريب المدارس والجثث والدماء وأصوات القذائف والأحزمة الناسفة وتفجير السيارات.. جميعها استدعى زيادة نسبة الأطفال الذين يراجعون العيادات النفسية.
قال وزير الخارجية السوري وليد المعلم إنَّ: (الأسرة السورية بأمس الحاجة اليوم لأن تهدّئ اندفاعات الغضب والتحديات وتتمسك بالوحدة الوطنية، ملاذاً ومصدر قوة لتصنع من سورية وطناً للديمقراطية.. ورأى أن الوحدة الوطنية (مهتزة). وشدّد على أن نفي هذا الاهتزاز يتم بتصالح السوريين مع ذواتهم وبعضهم مع بعض، والتقائهم على القواسم الوطنية المشتركة). وتأثرت القاعدة الشبابية العريضة بالأزمة، التي تشكل الرصيد الاستراتيجي لبناء سورية الجديدة. فالشباب يشكل (مستقبل سورية) وهو الطاقة البشرية القادرة على القيام بعمليات التنمية في التربية والتعليم والثقافة والفن والإبداع والبناء الاقتصادي وبث الحيوية والحركة في المجتمع. وتشير إحصاءات عام 2010 (قبيل الأزمة)، أن نحو40 في المئة من الشباب تركوا صفوف الدراسة قبل الانتهاء من مرحلة التعليم الأساسي، بعمر لا يتجاوز الخامسة عشرة. و26 في المئة منهم تركوا بسبب عدم قدرتهم على متابعة البرامج التربوية، و38 في المئة تركوا لعدم قناعتهم بأهمية التعليم أو فائدته في بناء مستقبلهم. ولجأت هذه الفئات إلى أعمال البناء والصناعة والحرف والتجارة البسيطة بأجور متدنية.
إذا كانت هذه التغيرات (البينية) في أوضاع الشباب، حصلت قبل الأزمة بعام، فكيف الحال بعد عامين ونصف؟
على الرغم من عدم وجود إحصاءات دقيقة، إلاَّ أن مؤشرات ظهرت رصدت نتائج سلبية عميقة، أدت وستؤدي حتماً إلى تغيّر نوعي في حياة شباب سورية، من النواحي التعليمية والصحية والثقافية والتربوية، وتأمين المسكن اللائق وغيرها. وانعكست الأزمة أيضاً سلبياً على جميع الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، وعلى المستوى الوطني من ناحية هجرة الأرض وترك الزراعة، وانفصال أو ابتعاد المرأة عن سياق التطور العام. إن بحث الأسباب والنتائج للأزمة السورية المركبة (سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً) يحتاج إلى فهم عميق للقوانين الجدلية المادية، وإعطاء أهمية خاصة للفعل التراكمي في إحداث التغيير النوعي. فخسارة الشباب مثلاً تجري في اتجاهين اثنين:
الاتجاه الأول، الهجرة الخارجية للعقول والأدمغة إلى أوربا والولايات المتحدة الأمريكية. وليس الإعلان الجديد ل 17 دولة بفتح باب الهجرة دعوة عفوية وحباً بسورية وخوفاً على مستقبل الشباب السوري، بل دعوة مدروسة جيداً ومخططاً لها، وذلك لاستقطاب الأدمغة والعقول والفنيين المهرة، وتفريغ سورية من قوتها الرئيسة وإعادتها إلى العهود المتخلفة. والاتجاه الثاني، هجرة قوة العمل والكفاءات إلى بلدان مجلس التعاون الخليجي، وهي هجرة قديمة، لكن الأنظمة الملكية والأميرية ومشايخ النفط والغاز، يفرضون على الشباب شروطاً مجحفة ويمارسون مختلف الضغوط، انطلاقاً من استغلال الأوضاع المعيشية القاسية في سورية. المسألة الهامة التي سأتطرق إليها في هذه المقالة، هي (الطبقة الوسطى) التي احتلت مساحة واسعة من التعليق والبحث والقراءة، نظراً لموقعها الاجتماعي. فهي تمثل شريحة واسعة جداً وتتداخل مع الطبقات العليا والدنيا. ويصطلح على تسميتها (البرجوازية الصغيرة)، التي لها دور إيجابي في تحقيق ( التوازن والتماسك الاجتماعي). وفي هذه الأزمة تبدلت الكثير من الدلالات والتحولات الناتجة عن تغيرات متلاحقة محمّلة بالتناقضات الداخلية بين فئاتها بما لا يضمن تماسكها السياسي والتنظيمي كطبقة مستقلة ذات مشروع واضح المعالم.
ولن تتوقف آثار الأزمة ما لم توقف الدول في المنطقة وخارج المنطقة، إمداد المسلحين التكفيريين بالمال والسلاح وأدوات القتل والتخريب.