ميلي بالاكيريف حياة إبداعية ورائعة… وأحياناً مأساوية وصعبة
بدأ بالاكيريف عهداً جديداً في الموسيقا الروسية. في البداية لم تظهر لديه أية بوادر للنجاح، ذلك أنه عاش طفولته ومراهقته بعيداً عن العاصمة. بدأ بالاكيريف دراسة الموسيقا على يد أمه التي كانت مقتنعة بوجود قدرات استثنائية لديه، فذهبت معه خصيصاً من مدينته (نيجني نوفغورد) إلى العاصمة (موسكو) حين لم يتعدَّ 10 سنوات، حصل في موسكو على عدة دروس في الموسيقا عند المدرّس وعازف البيانو والمؤلف المشهور ألكسندر دوبوك، وبعدها عاد إلى موطنه حيث توفيت والدته مبكراً.
تعرف بالاكيريف على ألكسندر أوليبيشيف، الدبلوماسي والباحث والمتذوق الموسيقي والكاتب (أهم كتبه:السيرة الذاتية للمؤلف موزارت «3 مجلدات»)، كانت تقام حفلات وأمسيات موسيقية في منزل أوليبيشيف، وكان هذا المنزل يمثل لبالاكيريف مدرسة حقيقية لصناعة الفن، فقد قام بقيادة أوركسترا الهواة فيه وكان يؤدي حفلات عازف بيانو، يقضي معظم وقته في مكتبة الموسيقا ويقوم بدراسة الأعمال والأدوار الأوركسترالية، وهنا كان النضج يأتي إلى هذا الموسيقار الشاب مبكراً.
في عام 1853 سجل بالاكيريف بجامعة كازان في كلية الرياضيات، وبعد مرور عام كان قد تفرغ كلياً للموسيقا وكانت أولى تجاربه الموسيقية (عدة أعمال لآلة البيانو،عدة أعمال رومانس) فلقي نجاحاً استثنائياً. وعليه قام أوليبيشيف بالانتقال مع بالاكيريف الى مدينة سان بطرسبورغ وتعرّف هناك المؤلف المشهور ميخائيل غلينكا، الذي أبدى اعجابه الشديد ببالاكيريف وقدم له المساعدة والنصائح الموسيقية. في سان بطرسبورغ اكتسب بالاكيريف أهمية كبيرة كعازف، كان يقوم بالتأليف والكتابة دون ملل، إلّا أن الحظ قد أتاه عندما تعرّف إلى سيزار كوي، وموديست موسورغسكي، وريمسكي كورساكوف وألكسندر بورودين.قام بالاكيريف بتوحيد و هذه المجموعة الموسيقية الصغيرة وقيادتها، فدخلت تاريخ الموسيقا سمّيت بمجموعة العظماء.
في هذا الوقت كتب بالاكيريف 20 رومانس بما في ذلك روائع: (تعال إلي)، (أغنية سليم) 1858 (أغنية السمكة الذهبية) – (1860).. نشرت جميع الأعمال وحازت على نجاح ومستوى رفيع جداً، وفي الحفلات قدم بالاكيريف أعماله السيمفونية: (افتتاحية على لحن «ثلاثة أغاني روسية»)، (افتتاحية موسيقية على عمل لشكسبير (الملك لير))، كما كتب العديد من القطع الموسيقية لآلة البيانو.
قام بالاكيريف، مع صديقه قائد الجوقات والمؤلف غابرييل لوماكين، بإدارة أنشطة موسيقية واجتماعية تعليمية بالمجان، حيث تمكن الجميع من تعلم الموسيقا… كانت دروس الغناء والصولفيج والموسيقا النظرية متوفرة، وفي الحفلات كان لوماكين يقوم بقيادة الكورال وبالاكيريف قام بقيادة الأوركسترا.
كان بالاكيريف من الأوائل الذين اعتمدوا في موسيقاهم الكلاسيكية على الموسيقا الروسية والأغنية الشعبية مصدراً للابداع، كان من أتباع غلينكا ومتأثراً به.
أقام بالاكيريف في القوقاز لفترة أتاحت له التعرف إلى الموسيقا الشعبية الشرقية. في عام 1867 ذهب في رحلة إلى براغ وقام بقيادة الأوركسترا التي قدمت عدة حفلات لمؤلفات غلينكا، وتعرف هناك أيضاً إلى الأغاني التشيكية الشعبية، انعكست هذه الخبرات على أعماله: (قصيد سيمفوني على ثلاث أغانٍ روسية)، (الافتتاحية التشيكية)، (فانتازيا شرقية لآلة البيانو: إسلامي)، (قصيد سيمفوني:تمارا).
بعد ذلك واجه بالاكيريف الكثير من المصاعب وتعرض لاكتئاب شديد أبعده عن الموسيقا والتأليف لفترة ليست بالقصيرة ليعود من جديد بصعوبة شديدة.
في منتصف تسعينيات القرن التاسع عشر كتب بالاكيريف 10 أغانٍ، وعمل على تأليف السيمفونية الثانية التي قام بكتابتها في 8 أعوام (1900- 1908).
اكتسبت موسيقا السيمفوني لدى بالاكيريف شهرة كبيرة ليس في العاصمة وحسب، بل امتدت شهرته إلى كل المدن الروسية وحتى في الخارج: في بروكسل،باريس،كوبنهاغن،ميونخ،هايدلبرغ وبرلين.
الأعمال الإبداعية التي قدمها بالاكيريف صغيرة ولكنها ذات قيمة غنية جداً خصوصاً في الأعمال التي استوحاها من الموسيقا الروسية، إن مجموعة الأغاني الروسية الشعبية لم تبدأ مرحلة جديدة في الفلكلور الموسيقي فقط بل قامت بإثراء الموسيقا الآلية والغنائية الأوبرالية.
بالاكيريف، كان محرراً موسيقياً مميزاً، مرت بين يديه معظم أعمال موسورغسكي وبورودين وكورساكوف. عاش بالاكيريف حياة عظيمة إبداعية ورائعة وأحياناً مأساوية وصعبة.
لكن، على العموم، كانت حياة فنان حقيقي ومبدع.