متطلبات تنفيذ التسعير الإداري في أسواقنا المحلية

فكرة ليست بجديدة تعمل عليها وزارة التجارة الداخلية لضبط شطط الأسعار، ألا وهي (التسعير الإداري).. وقبل الخوض في متطلبات تنفيذ هذه الفكرة ضمن أسواقنا المحلية، لا بد من معرفة ما هو التسعير الإداري، فهو يعني  السعر الذي تفرضه الحكومة على السلع والخدمات على نحو إلزامي، يأخذ بالحسبان بيانات تكاليف الإنتاج، مضافاً إليه هامش الربح.

وكانت وزارة التجارة الداخلية قد أعلنت سابقاً أنها تسعى لإلغاء تحرير نحو 90 سلعة محررة وإخضاعها لهذا النمط، وستشكل لجان في كل محافظة من المحافظات مع الأخذ بالحسبان طبيعة الظروف في كل محافظة على حدة، وستضم هذه اللجان ممثلين عن وزارات وجهات مختلفة، وبضمنها وزارات الاقتصاد والتجارة الداخلية والشؤون الاجتماعية وغرفتا الصناعة والتجارة. وستضع هذه اللجان التسعيرة للمنتجات والسلع التي سيجري تحديدها على مستوى الحكومة لتشمل جميع المحافظات.

ولكن يبقى السؤال: كيف ستقيد الوزارة سلعاً محررة في ظل تقلب سعر الصرف؟ وهل تملك القدرة على متابعة مدى التزام الأسواق بتقييد هذه السلع، أم أنها ستتركها للتجار كما حدث في النشرة التأشيرية؟ وما هي المتطلبات الحقيقية لتنفيذ هذا القرار في أسواقنا حالياً؟

المطّلع على أسواقنا يجد أنها لا تخضع حرفياً لقوانين السوق المعروفة من عرض وطلب، وذلك نتيجة الأزمة الراهنة التي تمر بها سورية وأثرها على مختلف القطاعات، وخاصة سعر الصرف والنقل وجمود الإنتاج.. وبالطبع يجب أن تؤخذ هذه العوامل الاستثنائية في الحسبان لدى تطبيق فكرة التسعير الإداري، لأنها تدخل ضمن تكلفة المواد المنتجة محلياً أو المستوردة أو نصف المصنعة. ويكفي القول بأن التسعير الإداري الذي يعني فرض السعر يحتاج إلى إجراءات تراقب تنفيذه على أرض الواقع، وإلا فإنه سيكون كغيره من الإجراءات السابقة التي سعت الحكومة بواسطتها لضبط الأسعار، مثل النشرة التأشيرية الملزمة، ولكن للأسف لم يلتزم بها أحد من الباعة أو حتى المستهلك.

النقطة الأكثر أهمية بالنسبة للسلع التي تسعى الحكومة لإخضاعها إدارياً والتي لا تريد أن تدعمها، تتمحور بأن تُسعّر السلع وهي منخفضة السعر قدر الإمكان، بحيث تكون مناسبة ومتوازية مع دخل الطبقة الفقيرة والمتوسطة، لا أن يفرض سعر مرتفع على السلع والمحافظة عليه. أي لا نريد أن تتماشى الإجراءات الحكومية مع الأسعار الرائجة في الأسواق. مثلاً أن تُسعّر لتر الزيت الأبيض ب600 ليرة وهو سعره الرائج في السوق، بل يجب أن تقوم اللجنة التي تدرس التسعير الإداري بالوقوف على المعطيات الحقيقية للتكلفة من فواتير استيراد أو إنتاج ونقل وسعر صرف، وإضافة هامش ربح قليل على السلعة، كنوع من المسؤولية الاجتماعية لقطاع الأعمال يجب أن يؤديها للمجتمع السوري في ظل الظروف الراهنة، ومن ثم تحديد السعر النهائي للسلعة، مع تحري التكاليف الحقيقية للسلع المستوردة والمنتجة، لكي لا يتعرض المستورد للغبن، وبالتالي يحدث نوع من العزوف عن الاستيراد، وبالتالي انعكاس ذلك على الأسواق.

وبالطبع سيواجه هذا الإجراء تذبذب سعر الصرف، وبالتالي اختلاف التكلفة بين وقت وآخر للسلعة نفسها، لذا لا بد في البداية من تحقيق استقرار حقيقي لسعر الصرف في الأسواق، وهذا ما نلمسه من إجراءات المصرف المركزي في الأيام الماضية بعملياته التدخلية.

وبعد تحقيق الاستقرار في سعر الصرف يمكن الوقوف على باقي عناصر التكلفة من نقل وغيره وتحديد السعر، وبالطبع توفير عناصر رقابة تموينية كافية لمراقبة تطبيق هذه الأسعار على أرض الواقع. والأهم من ذلك توعية المستهلك بأهمية المبادرة للشكوى إلى الجهات الرقابية في حال وجد اختلافاً في الأسعار التي حدّدتها الحكومة، لأن عدم إشاعة ثقافة الشكوى لدى المواطن فإن الجهات الرقابية لن تستطيع ضبط الأسواق بمفردها، مع تأكيد أهمية تفعيل العقوبات الجزائية على المخالفين والمتلاعبين بالأسعار، وخاصة المحتكرين للسلع. لأن الضرب بيد من حديد في ظل الظروف الراهنة هو الحل الأمثل للقضاء على ظاهرة التلاعب وتجارة الأزمات. في حين أن البقاء على قوانين الرقابة السابقة لن يجدي نفعاً لأنها قوانين لا تناسب الظروف الراهنة التي تمر بها أسواقنا وبلادنا.

بالطبع هذه الخطوة تحتاج إلى خطوة كبيرة تقوم بها الحكومة بتدخلها في طرح السلع الغذائية في مؤسساتها التدخلية وبأسعار منافسة، لخلق عنصر منافسة حقيقي بينها وبين القطاع الخاص، وإذا كان القطاع الخاص هو الأكثر مرونة في خلق هذا العنصر، فإن تجربة مجمع الأمويين استطاعت أن تحقق نجاحاً في كسر أسعار بعض السلع في السوق، وبالتالي يمكن العمل عليها أكثر من خلال طرح مواد غذائية في مختلف الصالات وتوسيع انتشار الصالات في الأرياف الفقيرة والقرى والمدن التي تحتوي على أعداد كبيرة من المهجرين.

بالنسبة للسلع التي ستخضع للتسعير الإداري والتي ستدعمها الحكومة، فإن وزارة الاقتصاد أوضحت سابقاً أن لجنة التسعير الإداري وافقت على قائمة من عشر مواد قُلصت إلى سبع، من بينها السكر والرز والشاي والسمن النباتي والزيت النباتي ورب البندورة. يُبدأ بالعمل على تأمينها على الفور وتوفيرها للمواطنين وفق تسعيرة اجتماعية مدعومة، وهذه الخطوة التي تحتاج إلى تنفيذ سريع بعد دراسة مستفيضة لأنها مكلفة، تحتاج إلى تفعيل الرقابة على عملية ما بعد عملية الشراء بسعر مدعوم وتوزيع المواد على صالات التدخل الإيجابي، لضمان وصول هذه المواد إلى المستحقين لا إلى التجار والسماسرة، وبالتالي تذهب المبالغ التي تكلفت بها الخزينة العامة إلى التجار بدلاً من أن يذهب الدعم إلى المواطنين ذوي الدخل المحدود.

إذاً آلية الرقابة على أرض الواقع هي جوهر كل فكرة تسعى الحكومة لتطبيقها، لأن غياب أدوات التطبيق يعني إبقاء الفكرة ضمن الأوراق والأقوال والتصريحات، وهذا ما لا يريده المستهلك ولا الحكومة، بل ما يجب أن يكون هو تطبيق الأفكار عملياً على أرض الواقع وتحقيق الأهداف المعلن عنها.

كما نؤكد أهمية التشاركية في صناعة القرارات الاقتصادية بين الحكومة وقطاع الأعمال، مع إيلاء أهمية كبيرة لمكافحة الفساد في بعض المفاصل الرقابية على الأسواق، وتزويد الجهاز الرقابي بعدد كبير من المراقبين التموينيين، يملكون إلماماً كافياً في مواصفات السلع وسلامتها الاستهلاكية.

في ختام حديثنا، نأمل أن تكون فكرة التسعير الإداري مغايرة للأفكار الأخرى التي طرحت سابقاً من حيث التنفيذ على أرض الواقع، لأن الهمّ الوحيد للمستهلك هو الحصول على سلعة تتماشى وقدرته المالية وحالته الاجتماعية وظروفه المعيشية، وما نلمسه في حقيقة الأمر هو أن الحكومة توجهت إلى تفعيل دورها الاجتماعي بعد فشل الجهات الرقابية في ضبط أسعار الأسواق، وذلك بزيادة السلع المدعومة المقدمة للمستهلك. ولكن كما ذكرنا يبقى المهم آلية الرقابة والتنفيذ لهذه الإجراءات مع التحرك لضبط أسعار السوق.

العدد 1140 - 22/01/2025