لودفيكو أريوستو.. حيث الملاحم

في أواخر القرن الخامس عشر، وبداية القرن السادس عشر فزع نفر من الأدباء والكتّاب والشعر إلى إعادة روح الفروسية، وثقافة البطولة إلى مدونات الأدب الأوربي، وقد حدث مثل هذا الأمر في مختلف البلدان الأوربية، وذلك بهدف بعث تقاليد النبل والفروسية في أوصال المجتمع، وفي أجواء قصور الحكام والأمراء وقادة الجيوش.

من هؤلاء الأدباء الذين اهتموا بموضوعة الفروسية، وتبنوا تقاليد الملحمة اليونانية والرومانية في موضوعاتها من حيث البطولة، والإقدام، والفروسية، والدفاع عن الأوطان، ومن حيث الأخذ بنظام الوحدات الثلاث كتقليد لكتابة المسرحية (وحدة الزمان، ووحدة المكان، ووحدة العمل/ الحدث) كان الأديب الإيطالي الشهير لودفيكو أريوستو الذي أخلص لموضوعة الملحمة وما تتضمنه من معارك وقادة، وبطولات، وفقد، وغياب، وأحلام، وعواطف، وجروح، وأشعار، وتذكر، ومعاناة.

 عاش أريوستو فترة شبابه في بلاط القصور لأن والده كان يعمل لدى الأمراء والنبلاء، ينتقل من مقر إلى مقر مانحاً ولاءه لأمير بعد أمير طلباً لحياة عنيدة، درس أريوستو علم القانون تحت إلحاح رغبة والده ليكون صاحب مكانة ومقام داخل بلاط الأمراء والحكام، ومع أنه لبى رغبة والده، ونال شهادة الحقوق، غير أنه لم يعمل في مجال الحقوق والمحاماة، شأنه في ذلك شأن الأديب الإيطالي المعروف بوكاشيو الذي درس علم الحقوق تحت ضغط من والده، لكنه لم يعمل في مجال الحقوق والمحاماة، حين انصرف إلى عالم الأدب والكتابة والشعر، فأنتج رائعته الخالدة (الديكاميرون) التي غدت حجر الزاوية للأدبين اللاتيني، والأوربي على مر العصور، وقد عدّ أريوستو دراسته للقانون، مدة خمس سنوات، ضياعاً للوقت لأنه لم يهتم بهذه الدراسة، ولم يطق مواد القانون لأن روحه كانت عاشقة للأدب، والحرية، والحوار، والعواطف، وأجواء المسرح، التعبير عن الرأي، ومناصرة القضايا، والإشارة إلى المشكلات، واستعادة التاريخ البطولي للبلاد الإيطالية، أي الحروب الرومانية، والقتال خارج أسوار القلعة الإيطالية (روما).

بعد الثانية والعشرين من عمره، اتجه أريوستو إلى دراسة الأدب الكلاسيكي، فأحب طقوس الأدب ولاسيما طقوس الفنون المسرحية، وشرع يقلد هوراس من خلال كتابة الأغاني، والمراثي، ودراسة الأمثال، والخطابة، والمقطوعات الغنائية التي تمجد البطولة والفروسية، قادة حبه للأدب اليوناني عامة، والمسرح اليوناني خاصة إلى التعمق في دراسة التقاليد المسرحية اليونانية، وما أضافه الأدب المسرحي الروماني إليه، فوازى في كتابته المسرحية تقاليد الكتابة المسرحية اليونانية، وهي في أطورها الأولى أيام (ارسطو فان) وسوفوكليس.

حين حافظ على الخطوات المتبعة في الكتابة المسرحية اليونانية المتمثلة بالأخذ بالوحدات الثلاث والتقيد بها، ودعوته لتمثيل المسرحيات التي كتبها على النهج الذي عرفت به المسرحيات اليونانية القديمة، والمسرحيات الرومانية القديمة التي احتشدت بحس الأساطير، والبطولة، وعشق الفروسية، وقصص الحب، والفداء والتضحية.

عين أريوستو في البلاط الكنسي أمين سر للكاردينال (دايستي)، وقد جاب جميع أنحاء إيطاليا، مدناً وأريافاً، بمهمات إيفاد من قبل الكاردينال، ثم عمل في قصر أخي الكاردينال الدوق فيرارا من أجل الإشراف على أنشطة القصر ولاسيما أنشطته المسرحية، وفي هذه الفترة تجلت مواهب أريوستو في الكتابة المسرحية، والتمثيل، واختيار الممثلين، والمغنين، والعناية بالديكور، وإعداد وتدريب العاملين في مجال المسرح، وقد كانت كتابات أريوستو، في البداية كتابات مسرحية فكاهية، تحمل طابع الترفيه عن الدوق وضيوفه، فيها الكثير من مواقف الإضحاك والهزل والمفارقة التي تنتقد صفات الكذب، والنفاق، والتملق، والغرور، والاحتيال، والمداهنة، ومن أشهر مسرحياته في هذه الفترة، والتي ترجمت إلى اللغة الإنكليزية وحظيت بشهرة واسعة خارج البلاد الإيطالية مسرحيته (المخادعون).

بعد هذه المرحلة توجه أريوستو إلى كتابة المسرحيات الملحمية التي تعتمد تقاليد المسرح اليوناني، وتأخذ بموضوعاتها من حيث إعلاء شأن عالم الفروسية، والسلام، والنبل، والتضحية، وربط الفروسية بالحب، وقصص العشق، وخلق الشخصيات ذات القوة العقلية والجسدية، والطموح الذي لا يحد، والشغف بالحب، والمحافظة على الروح التراجيدية حين تكون الظروف أقوى من قدرات الأبطال وأشمل، ومن أشهر مسرحياته ذائعة الصيت مسرحية (أورلاند فيوريو) وهي تعني الفروسية في حالة الغضب الشديد، أو البطولة في أوقات الغضب، وموت، وهزائم، وانتصارات، وتصور شجاعة الرومان، ومغامرات الفرسان، وقصص الحب الماتعة، ونوازع النفس ما بين العشق والأرض، والغربة ومتاعبها، والحياة المرفهة قرب العشيقات، والمفاضلة ما بين الحياتين من أجل الظفر بجاه البطولة وتاج الفروسية.

هذه المسرحية تقليد حرفي لمسرحيات اليونان القديمة من حيث الأحداث والشخصيات، وأساليب الخطابة، وحالات الغياب، ومشاهد البطولة، والأغاني المقدمة من قبل الكورس فوق خشبة المسرح، وحشود الجيش، والوقوف في حضرة القادة، والأمراء، والخطب الحماسية، والأشعار التي تقدس البطولة والتضحية، لكن هذه المسرحية لم تعدم الروح التي تميزت بها العصور الأوربية الوسطى أو عصر النهضة.

لقد أراد أريوستو أن يصنع بطلاً إيطالياً اسمه رولاندو يكون مثالاً للبطل الفرنسي المعروف (رولان)، من أجل تتبع نهج البطولة والفروسية في الأحداث، والأغاني، والخطب، والتضحية، والمآلات التي هي في غايتها الأعم نهايات مأساوية الطابع لأن البطل (رولاندو) الذي يكابد صروف الحياة بطولةً، وعشاقاً، وانتصاراً، وأحلاماً بالعودة الظافرة إلى البلاط ليقف منتصراً مزهواً في حضرة الأمير من جهة، ومنتصراً مزهواً أمام الحبيبة التي طال ترقبها لعودة ظافرة لعشيقتها الذي تتحدث عن بطولاته البلادُ كلُّها.

في المسرحية حضور لعالم الآلهة، وربات النصر والعشق والحظ، وحضور لعوالم السحر والتعاويذ والتنبؤات كلما غمضت المواقف، واشتدت الأحداث وعصفت، وقست الظروف على الأبطال والجند الطامحين إلى النصر، كما تحتفي المسرحية بمشاهد الخيال، والجنوح إلى الغرائبية والعجائبية في آن، وذلك حين تقاتل الرياح، والأمواج، والغابات، والأودية مع الأبطال الملحمتين لأن النصر اجتماع لقوى الخير في المغالبة النهائية.

كتب أريوستو مسرحيات كثيرة مهمة، وذات شهرة أيضاً، لكن مسرحيته (أورلاندو فيوريو)، بغضبها، وملحميتها، وبطولاتها، وانتصاراتها الباهرة.. هي أهم أعماله المسرحية التي ما تزال تعرض حتى الآن بوصفها التعبير الأجمل والأهم للمسرح الملحمي الإيطالي.

العدد 1140 - 22/01/2025