للفكر مبضعُ الجـرَّاح…

عالم الفكر يستمدُّ قوتهُ من قدرته على إدارة دفة التطور للمجتمع بالاتجاه الصحيح، ودائماً مصطلح التطور يجب أن يعني بأنه الحركة الإيجابية الراقية للبنى الفوقية صعوداً بأفكار ترتقي بتلك البنى نحو قمة السلوك الإنساني الصحيح للأفراد أو للجماعات التي يتشكّلُ منها المجتمع، وبالتالي تطوراً وتقدماً للبنى التحتية حتماً.

وليس التطور هو كما يشير إليه البعض بمفهومهم بأنه يعني التغير مع الزمن فقط، دون أن يرتقي هذا التغير إلى شيء من التجديد والتحديث للمفاهيم المتخلفة التي يعاني منها المجتمع كأمراض مزمنة، فالفكر الصحيح مبني على أسس معرفية وثقافية واعية ومنطقية، هذه الأسس يجب أن تكون الدواء الناجح للشفاء من تلك الأمراض، وأن يكون هذا الفكر كغرفة عمليات مجهزة بكادر جيد من المفكرين الحقيقيين الذين يبدعون أفكاراً إيجابية، تعمل عمل مباضع الجراحين، لاستئصال تلك الأمراض دون أن تترك أعراضاً جانبية لها، تلك الأعراض التي قد تنمو وتتحرك بصمت كالخلايا النائمة، ليعود المرض من جديد لدى كل هزةٍ يتعرض لها المجتمع، كما يحدث الآن في المجتمعات العربية التي اعتمدت في تاريخها على الثقافة الفكرية المشوهة والمؤقتة، المسكنة للمرض، وليس على الثقافة الفكرية الواعية التي كان من المفروض أن تعمل لإزالة المرض نهائياً.

عالم الفكر الصحيح والبنَّاء، هو البصر والبصيرة في تطلعات مكونات المجتمع، هو المقرّبُ بين التضاد والتناقض في مكنونات الموروثات والعصبيات والتقاليد والأعراف، والمطلوب من الفكر أن يقارب بين كلّ الاختلافات البشرية في اللون واللغة والقومية والطائفية، لينينتج مجتمعاً رائع الصنع متوافقاً في تشاركية إنسانية، تشاركية نواتها الإنسان مجرداً من كل صبغة أو صفة فرضها عليه مكان المولد وطبيعة الانتماء، ولم يكنْ للإنسان حتماً يدٌ أو علاقة في كيفية تكوينه الأول.

ذلك هو الفكر الذي يسعى إلى الارتقاء بالمجتمع، وبالمقابل وعلى النقيض، هناك أيضا للتخلف ثقافته الفكرية، وقد تكون هذه الثقافة مدعومة بالحجج والبراهين، التي قد يقتنع بها الكثيرون، لأن حججها وبراهينها مأخوذة من النصوص والأقوال القديمة المتوارثة، ومع تقديرنا لما تركه الأوّلون والسلف، إنما تلك الموروثات من النصوص والأقوال، على مختلف مراحل وأزمنة وجودها، هي قيلتْ وكُتبتْ لزمنٍ غير زماننا، ولأسبابٍ تجاوزها الزمن الذي نحن فيه، فأصبحت الثقافة المعتمدة على تلك الموروثات، تؤدي بقصد أو بغير قصد إلى تخريب العقول، وليس إلى تطورها، وتسعى إلى جمودها وليس إلى تحركها بالاتجاه الصحيح لنهضة المجتمع نهوضاً حضارياً، وهذا ما نلمسه عند الشعوب المتخلفة علمياً واقتصادياً وفنياً واجتماعياً بشكل عام.

الفكر الهدام يعتمد على ثقافة تصَيّد الأخطاء للآخرين، ورؤيتهم بعيون مغمضة عن الحقيقة، ويعتمد على العقل المحدود والمعرفة الضيقة للمتلقي، هناك للتعصب والغباء ثقافته الفكرية أيضاً، وللحماقة ثقافتها وفكرها، ونعترف إنها مستندة على أسس راسخة في النفوس والعقول، يتحمس لها الكثيرون بشكل انفعالي دون تفكير بصحتها ويتبعونها، تلك الثقافات والأفكار غير المنطقية وغير الصحيحة، هي التي تولد مجمل الصراعات التي نعيشها الآن في بلادنا العربية.

الفكر الصحيح المستند على أسس علمية، وقوانين حضارية، هو الذي ينتجُ مجتمعاً صحيحاً سالماً معافى من كل الأمراض، وهو الذي يحدد ويرسم الطريق الذي سيسير عليه المجتمع، فإما أن يكون الطريق مظلماً بالأفكار الهدامة، أو يكون مناراً واضحاً بالأفكار البناءة.

العدد 1140 - 22/01/2025