الاقتصاد السوري يدخل مرحلة الخطر!
المؤشرات الاقتصادية التي يتحدث عنها المسؤولون السوريون خلال الفترة الحالية، توحي أنه لايوجد مشكلات عميقة وجوهرية يعانيها اقتصادنا. وتبين أن العقبة الرئيسية داخلياً هي ما يتعلق بالنقل، على اعتبار أن كل المواد والسلع متوفِّرة، وجميع مايحتاجه المواطن موجود، لكنه النقل الذي أدى إلى إغلاق الطرقات والشوارع، وعرقل وصول السلع كافة، وساهم في الحيلولة دون وصول العمال إلى منشآتهم.
وبلاشك، هذا صحيح، لكنه القسم البسيط من المشكلة، أو الجزء الظاهر من جبل الجليد المغمور. فتحت هذا الرماد المتراكم من القضايا العالقة، والمشكلات المستعصية، التي يعرفها القاصي والداني، يوجد ايضاً الكثير من القضايا التي هي بحاجة إلى معالجة. ويكفي الرجوع إلى الوراء قليلاً إلى مرحلة ماقبل الأزمة في سورية لنكتشف أن ما كان يعانيه الاقتصاد الوطني كبير، والتحديات الماثلة أمامه آنذاك ربما لاتقل خطورة وصعوبة عن تداعيات وآثار ما حدث خلال الأزمة المستمرة منذ 18 شهراً، خاصة أن أحد أسباب الأزمة هو اقتصادي بامتياز.
لعب العامل الاقتصادي دوراً بارزاً في ظهور الاحتجاجات بداية الأزمة، لاسيما في الأرياف المنسية، أو التي أصرت الحكومات المتعاقبة على جعلها منسية، ما أدى إلى هجرة مواطنيها نحو المدن. وشكلت الإجراءات الاقتصادية والتوجهات العامة سبباً لإشعال الفتيل. وحالياً لم يتغير الكثير على صعيد الواقع الاقتصادي، للظن بأنه أصبح جيداً، إذ أُنهكت قوى سورية الاقتصادية خلال الفترة الماضية، وأغلقت في وجه تجارتها الأبواب، وسدت منافذ التصدير، وأوصدت فسحات المناورة الممكنة، وبات الانكفاء سمة غالبة على هذا الواقع. وجاءت العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية والولايات المتحدة، لتزيد طين الأزمة بلة. وكان العامل الاقتصادي الخارجي من أكثر الضغوط التي جعلت من الاقتصاد الوطني يتراجع، لجهة مؤشراته الكلية، إذ لايمكن لبلد أن يعيش متقوقعاً على ذاته، وأن يراوح ضمن دائرته الداخلية الضيقة، فالعلاقات الاقتصادية لسورية مع بقية الدول كانت من العوامل التي أدت إلى انعاش الاقتصاد الوطني وزيادة معدلات نموه، وساهمت في توسيع آفاق الانفتاح. ومع تواتر العقوبات الاقتصادية الأجنبية المفروضة على سورية، بدأ الوضع الاقتصادي الداخلي يعاني ارتدادات تلك العقوبات، التي انعكست عليه انعكاساً مباشراً، فأبواب التجارة المقفلة، والحالة الأمنية السائدة، جعلت الاقتصاد السوري يعيش حالة من التوقف القسرية، وفرضت عليه أن يستهلك ما تبقى لديه من عوامل وعناصر قوة، يأتي على رأسها ما يؤمنه القطاع الزراعي من سلع ومواد ومحاصيل، إضافة إلى الاقتراب من احتياطي القطع الأجنبي، لاسيما في ظل انعدام رفد هذا القطع بأية مبالغ جديدة. كما أن تفاقم العنف وتدهور الحالة الأمنية، دفع أيضاً إلى مزيد من المشكلات، فالمواد الموجودة في بعض المحافظات لايمكن نقلها، وإن نقلت تبرز مشكلة الأجور المرتفعة للشاحنات، فضلاً عن ازدياد المخاطر. وفي هذا السياق لابد من الاشارة إلى أن عدداً من العمال لايتمكنون من الوصول إلى شركاتهم، العامة والخاصة، كما أن عدداً من الشركات متوقف عن العمل نتيجة الأوضاع السائدة، أو لأسباب إنتاجية تتعلق بالخسارات المتلاحقة التي منيت بها بسب ضعف تنافسية منتجاتها.
هذا المشهد الاقتصادي غير الأبيض، لن يساعد الاقتصاد السوري على تجاوز محنته بسهولة، ولن يسمح استمرار هذه الحالة وتدهورها أو انزلاقها إلى حيث لا نريد من حرب طائفية، في أن يكون الاقتصاد الوطني عامل ضمان لجميع المواطنين، الذي يؤمن لهم احتياجاتهم المعيشية، وعلى رأسها رغيف الخبز، الذي بدا في الأسابيع القليلة المنصرمة أنه تعرض للخطر، لاسيما مع توقف بعض الأفران، ومعامل الخميرة. وبالتالي فوجود قمح يكفي لسنة ونصف بحسب تصريحات وزير الزراعة الصحفية هو جزء من عوامل الأمان المطلوبة، إذ إن توفر كميات من القمح لن يؤدي حتماً إلى توفير الخبز.
ماخلا المصارف وشركات التأمين، يبدو أن معظم شركاتنا ومؤسساتنا خاسرة، نتيجة تعرضها للتخريب أو لتوقفها مرغمة عن العمل، ما أدى إلى زيادة البطالة، وهو خطر لايمكن الاستهانة به، لاسيما مع فقدان فرص العمل في القطاع الخاص، الذي يضم بين جناحيه قوة العمل الأكبر في سورية، فهناك شركات عدة أغلقت، وتوقف الإنتاج في عدد آخر نتيجة الظروف الآنفة الذكر. وهذا لن يؤدي إلى خلق تنمية، أو حتى المحافظة على ما أنجز خلال الفترة الماضية. وبالتالي فإن الحديث عن انخفاض معدلات النمو، وتسجيلها نسباً سالبة، ليس أمراً مفاجئاً بقدر ما هو نتيجة متوقعة لكل ما جرى خلال الفترة الماضية من عمر الأزمة السورية.
لانريد المزايدة على الشعب، ولانريد القفز فوق الحواجز الكثيرة التي بنيت في الفترة الماضية، فالواقع الاقتصادي حسب أكثر السيناريوهات تفاؤلاً، بحاجة إلى عمل مضن، وجهود جبارة لينطلق من جديد، ومع هذا ما زال يملك بعض عناصر القوة التي تجب المحافظة عليها، لأن البلد باقتصاده وشعبه، قادر على البناء، لكن خسائر الاقتصاد ليست مجرد أرقام ونسب فقط، فهناك ما هو أعمق من هذا بكثير، خاصة بعد دخول الاقتصاد السوري مرحلة الخطر.