المواطن زبون غير مرغوب فيه.. المصارف السورية وثلاثيتها الخاطئة

ثمة قضية كبيرة عالقة بين المصارف من جهة، وقطاع الأعمال لاسيما الصناعيين والتجار والعاملين في القطاع السياحي من جهة ثانية. فالمصارف المؤتمنة على أموال المودعين ترفض تقديم التسهيلات لقطاع الأعمال. ويرى ممثلو هذا القطاع أن عزوف المصارف عن تقديم القروض وخاصة للمشروعات الإنتاجية،هو تنصل واضح وغير منطقي منها عن أداء دورها، الذي تمثل بالدرجة الأولى في المشاركة الحقيقية في التنمية. واللافت والمثير للريبة في آن واحد هو الشكوى الدائمة من المصارف بتكبيل إداراتها بقرارات وتوجيهات تحول دون تقديمها الخدمات المطلوبة لهذه القطاعات. وإصرار المصرف المركزي على ممارسة دور الرقيب على المصارف العامة والخاصة، وليس دور المساعد والمشجع والمحفز لها لتكون أكثر جرأة في تقديم القروض، ومحاسبتها بشكل فعلي على مدى مشاركتها في صنع التنمية، لا متابعتها على تفاصيل لاتغني ولا تسمن من جوع.  

وخلال الفترة القليلة الماضية تحدثت المصارف السورية لاسيما الخاصة منها، عن انخفاض أرباح بعضها مقارنة بالعام الماضي، لكن لم يشر مصرف واحد إلى الخسائر التي كانت متوقعة نتيجة الأزمة التي تعيشها البلاد منذ آذار ،2011 وهذا ما يدحض كل التوقعات التي كانت تؤكد إلى درجة الجزم، أن نأي المصارف بنفسها وعدم تلبيتها لحاجات ومتطلبات المواطنين إلى جانب الفئات المذكورة سابقاً، يسهم في حماية أموال المودعين. إن للمصارف دوراً تنموياً مهماً، وتضع معظم البلدان خططاً واستراتيجيات محددة ـ أحياناً سنوية ـ تقرها الحكومة وتشرف على تنفيذها، من خلال مؤسساتها المعنية بهذا الجانب، تتعلق بأوجه منح القروض المصرفية، التي توزع حسب حاجات البلد التنموية، وإعطاء القطاعات الإنتاجية الأولية. ولا تُترك المصارف تقرر بنفسها ما تريد تقديمه من قروض، وتختار قطاعات أو فئات بعينها، لأن المصارف جزء مهم من أدوات الحكومة في تنفيذ التنمية، وليست كما يظن البعض مجرد وعاء لادخار الأموال في خزائنها، ثم تقدم  فيما بعد القروض التي تشاء. هذا مع عدم تجاهل أحقية المصارف عبر مجالس إداراتها في رسم السياسات الاقراضية التي تريد، وفتح أقنية مناسبة ومعقولة، تصب في نهاية المطاف في إطار الاستراتيجيات الحكومية الموضوعة في هذا المجال. بالمقابل يظهر التساؤل المنطقي: هل وضعت الحكومة مثل هذه الاستراتيجيات الملزمة للمصارف الخاصة على وجه الخصوص، والمصارف العامة التي تملكها بشكل عام؟

لانشك في أن الحكومة والمخططين فيها، يتجاهلون قضية على غاية من الأهمية كهذه القضية. وفي قانون السماح للمصارف الخاصة ـ التقليدية والإسلامية ـ العمل في سورية ثمة نصوص واضحة ومعروفة تفرض على هذه المصارف ضرورة الالتزام بخطط الدولة وسياساتها التنموية، ليبقى الأمر المهم المتعلق بالتنفيذ، ومن هي الجهة التي تتابع تطبيق هذه القرارات والتوجهات، والتي نعتقد أنها المصرف المركزي بالدرجة الأولى، لأنه الجهة الوحيدة التي يحق لها التدخل مع المصارف، ومراقبة عملها، والاطلاع على تفاصيل ما تقوم به، بدءاً من دوام الموظفين لديها وانتهاء بالقضايا التي تعامل بسرية تامة ويحكمها قانون السرية المصرفية.

اتحاد غرف الصناعة يرفع المذكرة تلو الأخرى، مطالباً بتقديم التسهيلات للإقراض المصرفي، وهي حالة مثيرة للتساؤل وتُظهر الخصوصية السورية في العمل الاقتصادي. فالمصارف العاملة في السوق المحلية هي من كبريات المصارف العاملة في السوق العربية وما يعمل منها في السوق المحلية هي أشبه بفروع للمصارف الأم. وفي عدد من الدول العربية تطرق هذه المصارف أبواب الصناعيين والتجار، وغيرهم حتى المواطنين العاديين، بهدف تقديم قروضها لهم، إلا في سورية تبدو المعادلة معكوسة، إذ يطرق الجميع أبواب هذه المصارف، حتى العامة منها، ليجدوا أمامهم الكثير من العقبات التي تحول دون حصولهم على قروض لتنشيط أعمالهم، وأخرى لتأسيس أعمال جديدة. وتكتفي هذه المصارف بالقروض الخدمية، التي لن نناقش ضرورتها، وننفي الحاجة إليها. لكننا نتساءل عن التوازن القائم في كل مصرف بين ما يقدمه من قروض للقطاعات الإنتاجية، والأخرى التي يقدمها للقطاعات الخدمية؟ كما أن معدل الفائدة المصرفية، التي هي إحدى أدوات السياسة النقدية، باتت قضية إشكالية فالمركزي أصر على رفعها، وبأثر رجعي على القروض المسحوبة سابقاً، والصناعيون هم أكثر من يعاني من هذا الإجراء الظالم، بينما لا أحد يسمع صوتهم، أو يلبي مطالبهم.

ثلاثية المصارف السورية المتمثلة بالإقراض والادخار والمشاركة بالتنمية، لا يحكمها تدخل حكومي ملزم، وبالتالي فالمسألة ليست قيد الرغبة الحكومية والتعاون من الإدارات المصرفية، بقدر ماهي قيد الإرادات الخاصة بكل جانب، وهذا ما يُفشل الهدف الأسمى من وجود هذه المصارف، ويسهم في إضافة سبب جديد يؤدي إلى عرقلة تحقيق التنمية، ويحافظ على استمرارية الوضع القائم بأن المواطن السوري زبون غير مرغوب فيه لدى مصارف وطنه.

العدد 1140 - 22/01/2025