معركة عرسال.. حلقة في مخطط أوسع
أظهرت الأحداث التي شهدتها بلدة عرسال اللبنانية الحدودية، مطلع الأسبوع الماضي، خطورة ما جرى في هذه البلدة الواقعة في جرود سلسلة لبنان الشرقية، وتبعاتا على الوضع اللبناني خصوصاً، بوصفه امتداداً للأحداث الجارية في سورية، منذ أكثر من ثلاث سنوات، ولما يجري في العراق علناً منذ العاشر من حزيران الماضي، إذ شكل انتقال المعارك إلى إحدى بلدات المناطق الحدودية السورية – اللبنانية الهامة، تأكيداً لمخطط القوى الظلامية (الداعشية) والقاعدية وأنصارهما، الهادف إلى توسيع ساحة الاقتتال والتدمير والتخريب للبنى الوطنية، وإضافة دولة جديدة إلى قائمة الدول المنشغلة بأوضاعها الداخلية بعد سورية والعراق.
وينظر باهتمام إلى عرسال بسبب موقعها الجغرافي الحدودي مع سورية، فهي أحد المعابر الاستراتيجية للتواصل بين المجموعات الإرهابية في سورية، ومثيلاتها في لبنان. وازدادت أهميتها في هذا السياق بعد استعادة مدينة القصير وغيرها من البلدات الحدودية السورية التي شكلت معابر وخطوط إمداد للعصابات الإجرامية في سورية، كما ازدادت هذه الأهمية بعد معارك القلمون، ووجود مخيمات تضم عشرات الآلاف من النازحين السوريين فيها.
مثلت عرسال مشروع رأس حربة لهذه العصابات الهادفة إلى فتح جبهة جديدة في لبنان، بعد أن فتحت هذه العصابات جبهة العراق، وبوصفها خطوة نحو تأجيج الاحتقان الحاصل في مدينة طرابلس بين المجموعات الإسلاموية المسلحة والقوى الوطنية اللبنانية على اختلافها وتنوعها، والتفجيرات التي شهدتها العديد من مناطق بيروت، ويضاف إلى ذلك الأجواء غير الطبيعية في العديد من المناطق اللبنانية الأخرى، وبخاصة صيدا وجوارها والبقاع الغربي.
كما تزداد الأمور تعقيداً في لبنان تحديداً، بسبب الطبيعة الديمغرافية الفريدة التنوع إثنياً ومذهبياً، وتالياً كارثية انشغاله بمشاكل طائفية، بسبب التباينات القديمة – الجديدة، في الخريطة الحزبية – السياسية اللبنانية، التي ازدادت حدة إثر الأزمة السورية وتداعياتها على المنطقة، وبضمنها لبنان أولاً، بدءاً من سياسة (النأي بالنفس) الرسمية التي اعتمدها لبنان، وكأن الأزمة السورية لا تمسه، أو لا تنعكس تداعياتها عليه أيضاً، إلى الاتهامات التي كالتها العديد من القوى اللبنانية لحزب الله، ومشاركته في معارك سورية لضبط الحدود مع لبنان، ونتائجها الإيجابية على البلدين، مروراً بالاعتقاد الذي ساد رغم التفجيرات في بيروت، كذلك أحداث طرابلس، بأن لبنان، بسبب سياسته الرسمية المتبعة تجاه الأزمة السورية، في منأى عن تداعيات الأزمة السورية والعراقية ومخططات الدواعش والقاعدة في المنطقة بأسرها.
إذ أكدت أحداث العراق الأخيرة عمق الأزمة والصعوبات التي يواجهها، وخاصة بعد امتدادها، وصولاً إلى تخوم كردستان العراق وعاصمة أربيل، وتبعاتها على التركيبة الديمغرافية المذهبية والعرقية العراقية، ومخاطرها ما فوق العراقية أيضاً.
صحيح أن مواجهة الإرهابيين في عرسال قد جمع الغالبية الساحقة من القوى والأحزاب اللبنانية خلف الجيش اللبناني، وتأييداً له في مواجهة مخاطر هذه العصابات، كما أحرجت في الوقت نفسه قوى استمرأت سياسة النأي بالنفس، ومن بينها العديد من الرموز التي عادت إلى لبنان بعد غياب طويل، محملة بمساعدة مالية سعودية (نخشى أن تضاف إلى قائمة المساعدات الخاصة بتسليح الجيش اللبناني، التي لم تصرف بعد)، إلا أن الصحيح أيضاً يتلخص في شيوع حالة من عدم الطمأنينة، بعد إجبار الآلاف من مجرمي هذه العصابات على الانكفاء إلى جرود عرسال الحدودية نفسها بوصفهم قنبلة موقوتة.
إذ إن تجربة عرسال على مرارتها تؤشر إلى أن الصراع مفتوح ويتجاوز حدود هذه البلدة على أهميها، وأن البيئة الحاضنة لهذه العصابات في لبنان خصبة، وأن امتدادها إلى المناطق الأخرى قائماً وممكناً، وأن مواصلة الجيش اللبناني وما يمثله وطنياً معاركه في جرود عرسال الاستراتيحية بات ضرورياً وملحاً، لدحر هذه العصابات وإنهاء وجودها في لبنان، ويمثل ضرورة وطنية وإقليمية، بسبب مخاطر عقيدة هذه العصابات وممارساتها ومخططاتها التي تتعارض مع مصالح دول المنطقة أولاً، كما تتطلب موقفاً دولياً واضحاً وعملياً، يعمل على تجفيف منابع الإمداد والتمويل لهذه العصابات، وليس (انتقادها) نظرياً فقط، كما أن محاصرتها ووقف التسهيلات اللوجيستية لهذه العصابات، وتطويقها خطوة نحو القضاء عليها.
وهذا ما بات عملياً مهمة وطنية وإقليمية ودولية، تمس الجميع، وعلى الجميع أيضاً مواجهتها وعدم التعامل معها بانتقائية في هذا البلد أو ذاك، تارة ثورة، وتارة أخرى إرهاب، استناداً إلى مصالحها ومخططاتها، كما تفعل واشنطن وربما نيابة عن غيرها من الحلفاء والوكلاء والأدوات أيضاً.