الأسرة تحتاج إلى ثلاثة أضعاف دخلها الحالي.. متطلبات المعيشة تفرض التحرك المشترك لسد الفجوة بين الدخول والأسعار

كثيراً ما ذكرت إحصائيات سابقة الحد الأدنى اللازم لتأمين متطلبات الأسرة السورية، وبالطبع تلك الإحصائيات كانت قبل الأزمة، ولم تصدر أي دراسة حول هذا الأمر في ظل الأزمة الراهنة.

الأسعار التي طال ارتفاعها معظم السلع والخدمات باتت تشكل ثقلاً كبيراً على دخل المواطن، الذي بات يعلن إفلاسه مع منتصف الشهر، فالمواصلات حالياً تكلف نسبة كبيرة من الدخل، فهي تكلف المواطن ما لا يقل عن 5 آلاف ليرة شهرياً وتصل إلى 10 آلاف ليرة شهرياً، وذلك حسب بعد المنطقة التي يتنقل منها وإليها، والمواطن يتحمل عبئان في المواصلات: عبء مادي، وعبء جسدي، لأن المواصلات غير متوفرة دائماً.

فواتير مثقلة بالضرائب وتعرفة الطبيب والدواء.. ودخل المواطن

هذا ما يتعلق بالمواصلات، أما في حال تحدثنا عن باقي الخدمات فإن فواتير الكهرباء والمياه والاتصالات باتت مثقلة بالضرائب والرسوم التي أصبحت تشكل أكثر من نصف قيمة الاستهلاك الحقيقي.

الخدمات الصحية أيضا أصبحت تشكل خطراً حقيقياً على دخل المواطن، ففي حال زار المواطن أي طبيب فإنه سيكلل بكشفية لا تقل عن 500 ليرة وتصل إلى 1500 ليرة، وذلك حسب اختصاص الطبيب، بالطبع عدا فاتورة الدواء التي تضاعفت كثيراً، فأصبح من النادر وجود دواء سعره تحت 100 ليرة، والأطباء يقومون بوصف أدوية يحتاج المواطن إلى دليل لكي يستطيع الحصول عليها مع فقدان العديد من أنواع الأدوية في السوق، إلا أن البدائل متوفرة ولكن ليس لجميع أنواع الأدوية.

المواد الغذائية الأساسية لم تكن بعيدة عن ارتفاع الأسعار، فالأرز المغلف أصبح نادر الاستخدام لذوي الدخل المحدود، حتى البرغل والعدس ومختلف أنواع البقوليات، وأصبحت هذه السلع المغلفة ضمن قائمة المحظورات لدى المواطن، وبات يعتمد في شرائها بشكل (دوغما)، لأنها أرخص سعرا، فلم يعد المستهلك يبحث عن الجودة بل أصبح يبحث عن أي شيء يلبي حاجته وحاجة أسرته.

ووضع المستهلك حاليا العديد من السلع ضمن قائمة المحظورات، وبات يقتصر على المواد الغذائية الأساسية فقط، فهو يشتري اللحوم الحمراء بالغرامات وخاصة بعد أن شهدت مؤخراً ارتفاعاً في أسعارها بعد قرار تصدير الأغنام، وكذلك لحوم الفروج التي تذبذبت أسعارها بين الارتفاع والانخفاض.

ولا ننسى أيضاً الزيوت والسمون وبقية المواد الغذائية الأخرى من القهوة والشاي السكر والملح ووو… والقائمة تطول كثيراً، لأن هذه الاحتياجات جميعها تعتبر أساسية لدى الأسرة، ولا يمكن الاستغناء عنها.

الخضار.. بطاطا وبندورة وتضخم الفاتورة..

أما الخضار التي تربعت على قائمة ارتفاع الأسعار، فلم تعرف إلى الآن الانخفاض أبداً وخاصة المواد الأساسية منها، مثل البطاطا، التي لا تزال إلى الآن تباع بـ125 ليرة للكيلو رغم استيراد البطاطا التي أيضا بيعت بالسعر نفسه، أي أن التدخل الإيجابي في مادة البطاطا لم يثمر أبداً.

أما البندورة حالياً فانخفضت أسعارها وأصبحت بحدود 50 ليرة للكيلو ولكنها أيضاً تشكل ثقلاً على موازنة الأسرة، ولا ننسى بقية أنواع الخضار من الزهرة والباذنجان والملفوف والخيار وأنواع الفواكه التي ربما شطبت من الاستهلاك لدى الكثير من الأسر، إذ يوجد أسر اكتفت بالنظر إلى الدراق والخوخ والجارنك وغيرها من فواكه الصيف دون أن تتجرأ على شرائها، فأسعارها ملتهبة وهناك حاجيات أهم منها، بالطبع لم نذكر حاجيات الأطفال من فوط وحليب، ولا يمكن تجاهل إيجار المنزل الذي أصبح يأكل ضعف الراتب، ولا ننسى تكاليف الوقود من مازوت وبنزين وغاز التي تضاعفت أسعارها كثيراً وأصبح مازوت التدفئة يكلف الأسر مبالغ طائلة، ولا ننسى أيضاً انتشار السوق السوداء للكثير من هذه الخدمات، فقد لعبت دوراً بارزاً في رفع الأسعار واستغلت حاجات المواطنين، ولم نأت على ذكر الأجهزة الكهربائية الأساسية وارتفاع أسعارها المرهق حالياً أو حتى ارتفاع أجرة صيانتها، ولا ننسى الغش والتدليس وتقليد الماركات فتسببت بضرر مادي وصحي للمستهلك.

ما هو متوسط إنفاق الأسرة السورية شهرياً؟

في حال نظرنا إلى معدلات ارتفاع الأسعار، فإن المكتب المركزي للإحصاء ذكر خلال العام الماضي، أن التضخم على مستوى معيشة الأفراد والأسرة في آذار 2013 قارب 300%، ما يعكس تفاقم الحالة المعيشية في الأشهر القليلة المنصرمة آنذاك، بحسب قوله.

وهنا لا بد من طرح سؤال جوهري: أمام هذا الواقع الاقتصادي الصعب الذي يواجه الأسر السورية سواء في ارتفاع التضخم أو ضيق الموارد لمواجهته، ما هو حجم الإنفاق الوسطي لأسرة مكونة من خمسة أفراد؟

بالعودة إلى بيانات رسمية فإن نتائج مسح أجراه المكتب المركزي للإحصاء بين فيه أن متوسط إنفاق الأسرة السورية في عام 2009 بلغ نحو 30.9 ألف ليرة سورية شهرياًـ بزيادة تصل إلى نحو 20% مقارنة بمتوسط إنفاق الأسرة السورية عام 2007.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا الرقم كان قبل الأزمة السورية، وبالطبع عندما كان الدولار بـ47 ليرة، وعندها كان كيلو الفروج المذبوح والمنظف بـ40 ليرة، وعندما كانت أسطوانة الغاز بـ125 ليرة، وعندما كان كيلو الأرز نخب أول ممتاز بـ100 ليرة، أي أن الأسعار كانت مناسبة للدخل، وكانت الألف ليرة تقضي حوائج كثيرة للأسرة السورية.

 بالطبع حالياً الوضع يختلف تماماً، فكما ذكرنا سابقاً، فإن احتياجات الأسرة تعتبر كثيرة والأسعار حالياً مرتفعة، وبالطبع الحد الأدنى للأجور وفق آخر زيادة للرواتب أصبح بحدود 13670 ليرة.

ولنفرض أن الموظف الحكومي من الفئة الأولى يحصل على 20 ألف ليرة سورية شهرياً في أول تعيينه، ومع اقتطاع الضرائب والتأمينات الاجتماعية يبقى الراتب الشهري بحدود 18 ألف ليرة، ولنقل إن متوسط الأجور لدى القطاع العام هو 25 ألف ليرة شهرياً، وبالطبع القطاع العام كان له فضل كبير في الحفاظ على العمالة وعدم تسريح العمال رغم توقف العديد من الشركات والمصانع عن العمل، بالمقابل لنفرض أن رواتب القطاع الخاص ذي طبيعة العمل الصعبة جداً، يبدأ بحدود 15 ألف ليرة ولنقل متوسطاً 22 ألف ليرة، وهذا الرقم يختلف من وظيفة لأخرى حسب طبيعة العمل والاختصاص، وهذه الرواتب يجب عليها أن تواجه تضخماً يصل في بعض الخدمات والمواد الغذائية إلى نحو 400%، فكيف يمكن تحقيق ذلك؟ وما هو الرقم الحقيقي الذي تحتاجه الأسرة السورية لكي تلبي احتياجاتها الأساسية فقط دون أن تلجأ إلى الدين أو إعلان التقشف؟

جمعية حماية المستهلك: الأسرة على حد الكفاف تحتاج إلى 60 ألف ليرة شهرياً!

هذا السؤال توجهنا به إلى جمعية حماية المستهلك في دمشق وريفها، فأوضح رئيس الجمعية عدنان دخاخني في تصريحه لـ(النور)، أن المكتب المركزي للإحصاء أوضح خلال 2009 أن الحد اللازم لمعيشة الأسرة السورية هو 30 ألف ليرة، وهو رقم قريب للواقع جداً في ذلك الوقت، بالطبع كان الدولار وقتذاك بـ 47 ليرة، وحالياً فإن الدولار وسطياً هو 150 ليرة، إذاً فالدولار ارتفع ثلاثة أضعاف.

ولفت إلى أن الأسرة السورية المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 90 ألف ليرة سوية لجميع الخدمات، ووسطياً تحتاج الأسرة لتحقق حد الكفاف فقط إلى نحو 60 ألف ليرة.. مضيفاً: (هناك أعباء كبيرة على المستهلك، فلا نستطيع أن نغطي الشمس بغربال، فالأسرة السورية اتبعت التقشف والترشيد، ونطالب الحكومة أيضاً بسياسة الترشيد والتقشف ووقف الهدر، لأن هناك هدراً إلى الآن نجده في المؤسسات الحكومية.

ولفت إلى أن الترشيد والتقشف أصبح برنامجاً مفروضاً على الأسرة السورية، فقد كانت الأسرة تتناول ثلاث وجبات واقتصرت الآن على وجبتين.

تعليق: مكافحة التضخم وتحريك الإنتاج وخفض الأسعار.. خطوات للمعالجة

بعد عرض الواقع، يحتار الفكر الاقتصادي في كيفية تدبير الأسرة السورية لاحتياجاتها أمام هذه الأسعار مقارنة مع دخلها..وربما تعجز النظريات الاقتصادية عن تفسير ذلك، ولكن لا بد من وضع حلول تبدأ بأهمية أن تسعى جميع الفعاليات الخاصة والأهلية والحكومية في تأمين فرص عمل للعاطلين عن العمل بالدرجة الأولى، لأنهم لا يملكون دخلاً لكي يقتاتوا منه، وهم الأكثر تضرراً، ولا بد أيضاً من التركيز على أهمية دفع عجلة الإنتاج المحلي في المناطق الآمنة لطرح السلع المنتجة محلياً في الأسواق وتقليل الاعتماد على الاستيراد وذلك لخفض الأسعار، ولا بد أيضاً من مكافحة التضخم أو الحد منه وعدم السماح له بالارتفاع أكثر، ولا يمكن ذلك إلا بتوفير فرص عمل وتوفير المواد ودفع عملية الإنتاج المحلي، أما زيادة الرواتب فيمكن أن تلعب دوراً في سد الفجوة بين الدخل والأسعار، ولكن سيكون الدور محدوداً وآنياً وستواجه هذه الزيادة في الرواتب بزيادة في التضخم في ظل غياب الإنتاج المحلي، وهذه الخطوات يجب العمل عليها بالتعاون بين جميع الفعاليات، فليس التوظيف هو مهمة الحكومة وحدها بل على القطاع الخاص والأهلي أن يتحمل مسؤوليته اتجاه أبناء المجتمع، ولكن مهمة الحكومة من جهة أخرى أن تعمل على مكافحة ارتفاع الأسعار وتحسين مستوى المعيشة وألا تتخذ قرارات من شأنها أن ترفع الأسعار، وألا ترفع الضرائب على المواطن أكثر، وأن تبحث عن مطارح ضريبية لا تمس ذوي الدخل المحدود، والسعي لإطلاق مشاريع صناعية توفر فرص عمل لمن فقدوا أعمالهم، وهذه الخطوات لا يحوز التأني بها، بل نقترح التحرك عاجلاً لتنفيذها تنفيذاً مدروساً ومخططاً وبأسلوب التشاركية بينها وبين مختلف القطاعات الأخرى.

العدد 1140 - 22/01/2025