حرب العملات… حرب الجميع ضد الجميع
قلة ضئيلة من قضايا علم الاقتصاد صارت عرضة لسوء التمثيل السياسي، وهي تتقدم في ذلك على ما تتعرض له أسعار صرف العملات من سوء تمثيل سياسي. وقد ثبت ذلك مؤخراً بوضوح، حين صوّتَ مصر ف اليابان في الرابع والعشرين من كانون الثاني الماضي لمصلحة زيادة نسبة التضخم المستهدف من 1 إلى 2 بالمئة، وبلوغ هذا الهدف في أقرب تاريخ ممكن، وذلك رضوخاً للضغط الذي تعرض له من رئيس الوزراء الياباني الجديد، (شنزو إبي). ومن أجل الوصول إلى هذه النتيجة، سيبدأ مصر اليابان بعد مرور عام من الآن في شراء ديون حكومية، قصيرة الأجل في معظمها، بقيمة 13 تريليون ين، أي ما يعادل140مليار دولار، كل شهر. بالمقابل أثار هذا التصرف الياباني موجة من التحذيرات بقرب نشوب (حرب عملات). قاد الهجوم (أليكسي أوليوكاييف)، النائب الأول لمحافظ المصرف المركزي الروسي، انضم إليه كلٌ من (ينز فايدمان)، محافظ المصرف المركزي الألماني و(باك جاي وان)، وزير المالية في كوريا الجنوبية. وأشار فايدمان بانزعاج إلى (الانتهاكات المزعجة) و(نهاية الاستقلال الذاتي للمصرف المركزي). ولم يتوانَ اليابانيون في الرد. فقد قال (أكيرا أماري)، وزير الاقتصاد: (إن ألمانيا بلد استفادت صادراته أكثر مما استفادت من نظام الصرف الثابت لمنطقة اليورو. وهو بلد ليس في وضع يؤهله لأن يكون ناقداً).
وقبل أن يبدأ تبادل أنخاب البيرة في مؤتمر دافوس (ما يعد فرصة ثمينة)، دعونا نضع هذا الموضوع في سياقه التاريخي الصحيح. يفترض بنا أن ننظر إلى أربع مسائل:
الأولى: في ثلاثينيات القرن المنصرم، كان جلياً مَنْ هو الذي يشن حرب العملات. قبل حدوث (الكساد الكبير)، كانت عملات أغلب الدول مرتبطة بقاعدة الذهب. وكان لها سعر صرف ثابت يعتمد على المعدن الأصفر. وقتذاك تخلت بريطانيا عن الذهب في أيلول عام ،1931 ما أدى إلى إطلاق موجة من التخفيضات التنافسية. وكما يحاجج الاقتصادي (باري إيتشنجرين)، فإن التخلي عن معيار الذهب كان الخطوة الأولى الضرورية باتجاه التخلص من الكساد وإنعاش الاقتصاد مجدداً. ولم يقتصر تعويم الجنيه فقط على جعل الصادرات البريطانية رخيصة، ولكن الأهم من ذلك أنه سمح لمصرف إنجلترا بانتهاج سياسة نقدية ركزتْ على الحاجات المحلية. الفائدة المتدنية أيضاً ساعدتْ على تحقيق الانتعاش عبر قطاع سوق الإسكان. على أي حال، العالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم النقود الورقية وأسعار الصرف المعومة في أغلب الأوقات. لقد تم التخلص من آخر أثر واضح لمعيار الذهب في آب ،1971 حين علَّق الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى الذهب. لذلك فإن قيام بلد ما باتهام بلد آخر بشن حرب عملات في عام ،2013 يعد أمراً مبهماً. فالحرب ظلت قائمة لأكثر من 40 عاماً، وهي حرب الجميع ضد الجميع،
الثانية: علينا أن نتصور مدى قسوة الأحوال في اليابان. فقد ظلت تلك البلاد في حالة أقرب ما تكون إلى الجمود منذ نهاية ثمانينيات القرن المنصرم. فالناتج المحلي الإجمالي الأسمي بالين ظل في المستوى ذاته الذي كان عليه تقريباً قبل عشرين عاماً. وحجم دينها العام كبير إلى حد لا يمكن أن يكون مستداماً. كما أن الدراسة السكانية للسكان من حيث عدد المواليد والوفيات وسن الشيخوخة وما شابه في اليابان هو الأسوأ في العالم، خاصة في جزئية سن الشيخوخة. لذلك ينبغي منح اليابانيين مزيداً من الفرص.
الثالثة: يصعب وسم تصرف مصرف اليابان بأنه تحول جذري، فمحافظ المصرف (ماساكي شيراواكا) لم يعرض أية مشتريات أصول جديدة في عام 2013. وسيكون الأثر الصافي للمشتريات الموعودة في عام ،2014 محدوداً بالقياس إلى أن معظم المال سوف يستعمل لشراء ديون قصيرة الأمد وقريبة الاستحقاق. وسيكون صافي قيمة مشتريات الأصول لعام 2014 نحو10 تريليونات ين فقط. وهو ما يعادل 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولنقارن هذا بسياسة مصرف الاحتياط الفدرالي الأمريكي (المصرف المركزي) التي ظلت على نحوٍ ثابت أكثر هجومية قياساً بنظيرتها اليابانية منذ بداية الأزمة المالية العالمية. في الأسبوع الماضي تجاوزت موازنة المصرف الاحتياطي ثلاثة تريليونات دولار للمرة الأولى على الإطلاق. وإذا ما استمر المصرف في شراء الأصول بالمعدل الحالي وهو 85 مليار دولار في الشهر خلال الأشهر المتبقية من العام الجاري، فإنه سَيُراكم تريليون دولار آخر في شكل أصول طويلة الأمد، وهو ما يساوي ما بين 6 إلى 7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا خلال العام الجاري فقط وليس العام المقبل.
الرابعة: وهي الأهم. إن ميل الساسة وعامة الناس للتركيز على تحركات الأجل القصير في أسعار الصرف الاسمية مثيرة للغضب أكثر من كونها كاشفة أسرار. صحيح أن سعر الصرف في اليابان بالنسبة إلى الدولار ضَعُفَ بشكل لافت منذ شهر أيلول الماضي، إذ كان الدولار وقتئذ يساوي 77 يناً، أما اليوم فيساوي90 يناً. إلا أن هذا التراجع والبالغ نسبة 17 بالمئة يبدو أقل شأناً حين نتذكر أن الدولار كان يعادل 158 يَناً في أوائل عام 1990. كما أن سعره التبادلي، باستثناء فترة قصيرة في عام ،1995 أصبح أقل من 90 يناً منذ صيف عام 2010. وعلى أي حال، فإنّ سعرَ صرف اسمي وحيد ليس مهماً حقاً، ذلك أن (مصرف التسويات الدولية BIS), يتولى حساب أسعار صرف حقيقية فعالة أقوى دلالةً، وتضع اعتباراً لكل الاقتصادات المختلفة التي يتعامل معها بلد ما، تجارياً، إلى جانب التغييرات في الأسعار النسبية.
وبأخذ هذا الواقع بالحسبان، ستبدو قصة اليابان مختلفة جداً. فقد أدى آثار الانكماش العام في الأسعار منذ أوائل التسعينيات إلى إضعاف سعر الصرف الحقيقي الفعال. وفي الفترة بين 1994 وصيف ،2007 تراجع هذا السعر بمعدل يزيد على الثلث. ولكن مع بداية الأزمة المالية العالمية أصبح من الضروري على اليابان التخلي عن بعض مكاسبها في مضمار التنافسية. وبين آب 2007 وتشرين الأول ،2011 ارتفع سعر الصرف الحقيقي الفعال بنسبة 27بالمئة. وقد عكست السياسة اليابانية الأخيرة هذا الاتجاه جزئياً فقط. واستناداً إلى بيانات (مصرف التسويات الدولية)، فإن أشرس محاربي العملات خلال الأعوام الخمسة والنصف السابقة هم كل من كوريا الجنوبية (أجرت تخفيضاً حقيقياً مؤثراً لسعر عملتها بنسبة 19 بالمئة منذ آب 2007)، والمملكة المتحدة (17بالمئة). لذلك فاز الكوريون الجنوبيون الأسبوع الماضي بجائزة الإنفاق. أما بالنسبة إلى البريطانيين فلم يكن أمراً مفاجئاً أن يرى رئيس الوزراء ديفيد كامرون أن أزمة الاتحاد النقدي الأوربي فرصة سياسية كبيرة. فهو أحد أولئك المحافظين العقلاء الذين عارضوا انضمام بريطانيا لمنطقة اليورو. كما أن السياسة المالية المتساهلة لمصرف إنجلترا هي التي تولَّت التخفيف من خشونة سياسة التقشف التي تبنتها حكومته. أوصاف كثيرة أُطلقت مؤخراً على كامرون، إلا أن اللافت أنه لم يكن بينها وصف (مقاتل في حرب العملات)، وذلك على الرغم من أن قسماً من خطته منذ دخل (تن داونينغ ستريت/ مبنى الحكومة البريطانية) كان إضعاف الجنيه الإسترليني ولكن بحذر. على حين ظل (السير ميرفن كنج/ محافظ المصرف البريطاني) يحاول مواساته، وهو ما سيحاول خليفته في منصب محافظ المصرف، (مارك كارني) القيام به مع كاميرون. لقد وصف المعلقون السُّذَّج وعد كامرون بإجراء استفتاء حول بقاء إنجلترا أو خروجها من الاتحاد الأوربي بعد الانتخابات العامة القادمة بالتهوُّر. ولكن هذا الوعد ليس فقط ذا مغزى سياسي، بل له أيضاً معنى اقتصادي باعتباره جزءاً من استراتيجية تهدف إلى تخفيض قيمة الجنية ويجري تنفيذها في الخفاء.
* نيال فيرغسون: أستاذ كرسي (لورنس تيش) للتاريخ بجامعة هارفارد، وكبير باحثين في مؤسسة (هوفر) العلمية في (استانفورد) والكلية اليسوعية في أوكسفورد. ومؤلف كتاب (الانحطاط العظيم)، وكتاب آخر عنوانه (التمثال الضخم: ثمن الإمبراطورية الأمريكية).
عن (FT.com)