من الفرح إلى الحذر.. قراءة لا بد منها
عندما كتبت سابقاً على صفحات (النور) عن (مصائر التحرر العربي)، كنت أعبر عن هواجس وخوف أستشعره وأنا أرى النضالات التي خاضها الشعب العربي في بعض أقطاره، ابتداء من أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، خاصة في تونس ومصر، في حالة إرباك، وذلك عندما رأينا أن القوى التي كان حراك الأمة منذ بدايات النهضة العربية يسعى للخلاص منها، باعتبارها كانت، على نحو أو آخر، أهم أسباب تخلف بلادنا وتراجع دورها، تعود إلى واجهة المشهد السياسي بقوة، وهي القوى التقليدية التي لم تغب هيمنتها المسببة للإعاقة، متمثلة ب (الإسلام السياسي)، ونظم التبعية التي يتمكن الغرب من توجيه حراكها.
حينذاك خالفني بعضهم، مؤكدين أن الحراك ثوري، وما ينتج عنه إن هو إلا نتائج ثورية لا ردة ولا تراجع فيها، وأن الثورة تصحح مسارها عندما تكون أصيلة وعميقة الجذور لدى الشعب. ولم أختلف معهم في الفكرة الأخيرة، مع أن خلافات أعمق جرت حول الموضوع. وهنا أنوه بآراء بعض المفكرين والباحثين ممن رأوا أن ما جرى في مصر وتونس (بغض النظر عن غيرهما) ليس ثورة، إنما هو حراك دون الثورة وأعلى من الانتفاضة. ومن هؤلاء سمير أمين ومحمد أحمد النابلسي وغيرهما. وقد ناقشت الموضوع على صفحات مجلة (الطريق) وفي كتاب بعنوان (أبيض وأسود في الحراك الثوري العربي) صدر عن دار نون.
قلت في مناقشاتي إذا كنا لا نرى في خروج هذا العدد من البشر، والذي قدر بين خمسة عشر وخمسة وثلاثين مليون مواطن مصري في وقت واحد إلى ساحات المدن والبلدات المصرية، ثورة لإسقاط نظام حسني مبارك الاستبدادي، فما الذي نراه ثورة؟ ولماذا نعتمد مقاييس أو معايير ومفاهيم جامدة، مع أنها غير ملزمة، مثل النظرية الثورية والتنظيم الثوري لعدِّ الحدث ثورة؟
التعبير المصري عن الحاجة المصرية لما حدث في بدايات 2011 ثورة لا ريب فيها، ودليل ثوريته إرادة الملايين التي لم تهدأ، والتي فرحنا بها منذ انطلاقها ونجاحها الأول، وخرج الناس في شوارع المدن السورية والوطن العربي يرحبون بها، ولقد رأينا في ذلك من الفرح ما يغمر القلب، لأن جماهير بهذا الحس الوطني الرفيع وهذا الانضباط الواعي، يتحركون بكثافة عالية لتغيير أوضاعهم الآسنة. وكنا إلى حين تحرك الناس في تونس ومصر نشعر باليأس من عجزنا، حتى قرّ في نفوسنا أن جماهيرنا العربية غير صالحة لعمل ثوري أو تمرد على ظلم، حتى أثبتت العكس. والأهم أن هذه الجماهير لم تغادر ميادينها، ولم تتراجع تطلعاتها الثورية، وبقيت يوماً بيوم تزداد صلابتها وهي تتابع مصير حراكها. وعندما وجدت أن القوى الفاشية قد صادرت الثورة وغلبت على المشهد، إذ سيطرت قوى الإسلام السياسي، كانت لها القوى الثورية الشعبية بالمرصاد. أليس هذا شيئاً مبشراً ومفرحاً؟!
هذا الفعل المتجدد يعيدني لتأكيد أن ما حدث هو ثورة بكل الدلالات، أنتجها شعب بأكمله (لا تنظيم واحد)، وهذا الشعب يمتلك أهم نظرية ثورية وأرفع إحساس ثوري، وهو وطنيته القوية ومعرفته أين تكمن مصالحه، ويتحرك بإصرار لا تراجع عنه، دون عنف، ومحافظاً على ممتلكات الناس ودمائهم وكراماتهم، إلى أن أنجز ما أراد وأسقط حكم القوى الفاشية للإسلام السياسي. إنها حيوية لم تنتقص، وإرادة لم تتكرر كثيراً في التاريخ، وفعل يستحق الدراسة بعمق لاستنتاج الدروس والتعلم مما أقدم عليه شعب مصر. وأية ثورية أعلى من ثورية شعب يسقط نظامين مستبدين خلال عامين، بروحه الثورية العالية التي لم تتوقف عن التفاعل مع واقعها وأحلامها وإنتاج مشاريعها، دون أن تلجأ إلى العنف أو تضحي بمبادئها أو مقدرات وطنها؟
ولكي تكون القراءة دقيقة، والتحليل متماسكاً لا يغفل الاحتمالات والوجوه الأخرى، لا يصح النظر إلى النجاح والوجه الإيجابي فقط. دائماً ننساق وراء العواطف وتبهرنا الإنجازات الرفيعة التي كثيراً ما تخفى عن عيوننا إلى حين ما يجب ألا يخفى من أخطاء ومؤشرات سلبية.
هذا مدخل قراءتي، فما تقدم هو ظاهر الأمر المفرح، ونقل للمشاعر والأحاسيس التي يشعر بها الناس ممن يتمنون الخير لمصر وشعبها، والاحترام لحراكه المميز. لكن دون استبعاد القلق، خاصة إذا كان في العمق وليس عابراً.
لم تكن الثورة التي أنجزت في كانون الثاني 2011 في مصر حصينة ضد الانتهاك، وهي عندما أعلنت أنها ثورة شعبية هدفها بناء مجتمع ديمقراطي، وكان اندفاعها قوياً باتجاه أهدافها، مع ذلك أنتجت نظاماً مستبداً عن طريق الصناديق، ما يعني أن الثورات غير محصنة تلقائياً ضد من يستغلها ويحرفها عن مسارها، والجموع الثائرة الراغبة في نظام ديمقراطي، يمكن أن ترى نفسها منحرفة باتجاه لا تريده ولا تتحرك من أجله، ما يجعلها تثور لرفضه ثانية. هل يعني ذلك أن الوعي الديمقراطي والثقافة الديمقراطية التي تحول الحدث من ديمقراطية الصندوق إلى ديمقراطية الواقع والممارسة وإدارة البلاد غير موجودة؟ ربما، لكن ربما أيضاً أن قوى الاستبداد الفاشية أقوى من أن تتغلب عليها القوى الديمقراطية دفعة واحدة، لأن هناك خللاً ما في وسط ينتج أول ما ينتج عقب ثورة ناجحة، نظاماً استبدادياً تقوده قوى تركب الثورة وتدَّعي الديمقراطية. لكن ألا يعني هذا أن الوعي الديمقراطي الأصيل لم يتكون بشكل فاعل وحقيقي في المجتمع باعتباره ثقافة مجتمعية، ويمكن أن يخدع هذا المجتمع مرة ثانية وتعود قوى رجعية استبدادية أخرى إلى واجهة الحكم وعن طريق الصناديق، ما يعني أن على الجماهير أن تبقى في الميادين مرة إثر أخرى، وفي كل مرة تتوقع أنها أنجزت ما تريد، لتكتشف أن عليها أن تعود من جديد؟
الأهم من ذلك وما يشعر بالخوف، حين لا تستطيع الديمقراطية تصحيح توجهها ومسارها بذاتها، أي بطريقة ديمقراطية. ما يعني أن قوى فاشية ومستبدة قد تتمكن من اعتقالها، وهذا يقود إلى ثورة ثانية، ومن يدري فقد تكون ثالثة ورابعة إذا وجدت الجماهير أنه لا بد من نزولها إلى الشارع لاستكمال ثورتها، أو لإنقاذها عندما تنحرف، ومعلوم ما يحمل ذلك من أخطار. وربما كان في رأس هذه الأخطار تعطيل التقدم، باعتبار أن الزمن الذي انتظرته الجماهير لتقطف ثمرة ديمقراطيتها الموعودة التي تحولت إلى الاستبداد قد ضاع، وقد تكون أحوال الشعب لا تحتمل ضياع الوقت وقضائه في التجارب وما تحمله من تعطيل للنمو، وهو يعني خيبة أمل القوى الثورية، فما إن تثق بجهة ما، حتى تحصد النتائج المخيبة، فتندفع إلى التحرك ثانية.
إضافة إلى شكوك القوى الثورية ببعضها وبأساليبها، فقد يكون خطراً أن يصبح ذلك هو الأسلوب الذي لا تجد الجماهير له بديلاً، أي أن تنزل إلى الشارع، وأن يصبح الشارع بديلاً للمؤسسات، هو موقع الترجيح والتصحيح. فإذا كانت القوى المتصارعة لكل منها شارعها وجماهيرها، وهذا ما لا يخفى في حالة الإسلام السياسي بكل أطيافه ودرجاته والذي قال فيه نصر حامد أبو زيد، إنه لا يختلف في النوع بل في الدرجة، أي أن تمايزه لا يشكل ضماناً، ويعني أن الشوارع والساحات قد تمتلئ غداً بالإسلاميين المحتجين على كل شيء دونهم، ومهما كانت ديمقراطية الآخر فاعلة فلن يعترفوا بها ما لم ينسبوها إلى الإسلام شكلاً ومضموناً، أي يرون إسقاط من يخالفهم واستبداله. وبما أن أي نظام حكم لن يعدم السلبيات والأخطاء التي يبني عليها خصومه، فيكون الحراك الجديد ثورياً إذا ملأ الشوارع بالمطالبين بالتغيير، خاصة بعد أن تم اعتماد أعداد المتظاهرين مقياساً للثورية، بالمعيار الذي مكنته أحداث 30 حزيران ،2013 ويصبح التغيير ثورياً وجماهيرياً ملحاً وجالباً للتعاطف، مع احتمال ذهابه إلى العنف الذي يوضع في الحسبان ويثير الخوف.
من أهم ما يجب التوقف عنده، هو أن الديمقراطية يجب أن تخلق آلياتها الديمقراطية للتصحيح، ونحن إذا اعتبرنا الحراك والتظاهر السلمي آلية تتيحها الديمقراطية للتعبير عن إرادة الجماهير، فهذا كما أشرنا معطل للحياة العامة وله أخطاره، فاستثمار الشارع وتحركاته يجب أن يخرج من المعادلة. بالتالي إن الآليات التي تنتجها الديمقراطية لتصحيح مسارها، يجب أن تكون آليات مؤسساتية، لا تقتضي تعطيل الحياة العامة للناس واستنفارهم في الشوارع لإنجاز إرادة جماهيرية ديمقراطية، وما لم تنتج الديمقراطية الوليدة هذه الآليات الذاتية، لن يكتمل بناؤها، وقد تكون حراكاً مستمراً، يشعر الشعب بالمرارة مما آلت إليه جهوده وصبره.
لا يكفي أن يكون صندوق الانتخاب هو الحكم كل مرة، وأوضاع البلدان لا تحتمل طول المخاض، لأن إطالة الحراك لجلب الاستقرار، يعني أن القوى المعطلة قادرة على الاستثمار فيه، والبلاد مفتوحة لتدخل القوى المتربصة. وهذا يقودنا إلى خوف حقيقي أخطر، قديم جديد، يطل علينا في كل نسمة تتنسمها بلادنا، ولم نصبح قادرين على استبعاده، فهو يفرض وجوده علينا، ونفرضه على أنفسنا عندما لا نواجهه، إنه التدخل الخارجي.
لقد أنجزتُ مؤخراً كتاباً بعنوان (التبعية – السيادة المنقوصة والتنمية المعاقة)، يطلق الصرخة: إلى متى سنجد أنفسنا غير قادرين على أي إنجاز أو حراك دون أن نجد للأجنبي دوراً فيه؟ ومتى سنكون قادرين على الخروج من أشكال التبعيات المتعددة في كل مجالات الحياة، وأن نقول لهذا الأجنبي لا عودة لك إلى بلادنا لتحرك الأحداث فيها، فمن يحرك أحداثها هو شعبها؟
ما يثير القلق أن نصل إلى هذه المراحل المتقدمة حين تخلصت شعوب العالم الحية من الوصاية عليها، ونحن لا نزال نعيد إنتاجها. ونحن نفهم أن الاستعمار (الاستخراب) الغربي أنشأ دولاً ورعاها، ومنها ما كان يطلق عليه (محميات)، ونفهم أن بريطانيا قد رعت نشأة الإخوان المسلمين، وأصابعها امتدت لدعم ورعاية الحركة الوهابية، وغير ذلك كثير مما جرى في فترة الاستعمار الغربي المباشر لبلادنا. كما نفهم أن الإمبريالية العالمية كانت وراء أكبر جريمة عرفها التاريخ، هي جريمة اغتصاب فلسطين. وأن الولايات المتحدة ورثت كل هذا الإرث الاستعماري وزادت عليه مع إدامته وتجديده، وأنها تنتج آليات متجددة للتحكم ببلادنا وشعوبنا مثل (الفوضى الخلاقة) لإنتاج (الشرق الأوسط الجديد). والفوضى خلاقة فعلاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي ترى أنها تحسن إدارتها واستثمارها، وهذا ما نحن فيه اليوم. وإن أسوأ آلية تستخدمها لذلك هي تبعيتنا لها، ودفعنا لننتج الأوضاع التي تناسبها في بلادنا لنبقى مستغَلين من قبلها. وهذا ما لا نفهمه!
نكرر الحديث عن تعرضنا للمؤامرة دون أن نبذل الجهد لاعتراضها قبل أن تفعل فعلها مع علمنا بها. ولقد أصبحت المؤامرة مما نخجل من الحديث عنه لكثرة ما نشير إليها، ولأن الكثير من أخطائنا هي مما نقول عنها إنها مؤامرة للتهرب من مسؤوليتها. المؤامرة في حالتنا معروفة غير مخفية، وهي مخططات معلنة يعرفها الجميع، لكن الجميع لا يقومون بما يتوجب عليهم لاعتراضها قبل أن تدمر ما تدمر. واعتراضها ممكن وفي مقدورنا، فهل صحت رؤية مالك بن نبي، أننا شعوب ذات قابلية للاستعمار؟!
أي حراك ليس للغرب دور فيه ونحن نسمع ونرى؟ وقد نستثمر هذا الدور ضد بعضنا، مع أننا نعلن رفضه والبراءة منه؟ كلنا نشتم الغرب وندين تدخله في حياتنا، ولكنا نستدعيه ونعمل تحت رايته سراً وعلناً، بإرادتنا وبدونها، نطلبه ونوظفه ضد بعضنا ثم نشتمه. نتهمه بالتآمر علينا وننفذ له مخططاته بدل أن نقطع الطريق عليها ونحن قادرون، لكننا لا نملك الإرادة والجرأة، ولأن أكثر أنظمتنا من إنتاجه وتحت رعايته أو توجيهه.
القوى الثائرة هي قوى يسارية، ويساريتها ليس في انتمائها إلى أحزاب اليسار التقليدية، بل في توجهاتها والأهداف التي تسعى لتحقيقها، بمعنى أنها تعمل لمصلحة الشعوب، وهذا ما نراه عندما ننظر إلى الفعل لا إلى الشكل، وكل فعل هدفه تقديم الخير للناس ونفي استغلالهم ومقاومته، هو فعل يساري، وبهذا يكون علينا أن نضع خريطة أخرى جديدة لليسار. لعل الباحث كريم مروة قد سبق إلى ذلك في كتابه (نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي). وبعض النضال اليساري يتمحور حول حقوق الإنسان. هنا نسأل، لماذا تتمكن الولايات المتحدة زعيمة الإمبريالية أن تمسك، أو أن نمكنها من الإمساك بالتحركات الثورية، حتى أصبح لدينا يقين أن لا فكاك لنا من الولايات المتحدة ومن أذيتها وتحقيق إرادتها كأنها قدر محتوم؟
مصر حسني مبارك كانت أمريكية التوجه، ومصر محمد مرسي والإخوان المسلمين تحت الرعاية والتوجيه الأمريكي. وما إن ظهرت بوادر التغيير وطرد الإخوان من الحكم حتى بدت الولايات المتحدة على رأس المشهد الذي ينخرط فيه عشرات ملايين المصريين. هل يعني أن أمور مصر لا تستقيم بدون رعاية أمريكية على عكس ما كان الأمر أيام جمال عبد الناصر؟ والجميع يعرف ما تتطلبه الرعاية الأمريكية من رضوخ لإرادتها وإرادة إسرائيل، أم أن مصر قادرة على الخروج من هذه التبعية، ونحن في انتظار ذلك؟ لعل هذا يحصل قريباً بإرادة شعب مصر.
في الخليج الولايات المتحدة هي الفاعلة، في ليبيا وتونس أيضاً، كما ساهمت في تقسيم السودان، وها هي ذي تقول للسوريين: عندما أريد إنهاء الأزمة السورية تنتهي، لأن اللاعبين في المشهد السوري تحت سيطرتي (دول الخليج، تركيا، الأردن، الدول الأوربية وغيرها…).
أليس من المؤشرات الخطرة في موضوعنا الذي نتحدث عنه، أن تطل الولايات المتحدة في كل جزئية فيه دون أن يكون هناك من يقولها لها، مشكورة جهودك، لكننا لا نريدها. ما نريده أن تنهي دورك ودس أنفك في كل كبيرة وصغيرة وفي كل نشاط في بلادنا. لقد أتخمنا دورك، وأفقرنا استغلالك، ونحن لا ندري كيف يأتينا أكبر الأذى منك، ثم تكونين عامل الإنقاذ لبلادنا من الأخطار في وقت واحد؟ وإذا أردنا الحقيقة وحسم الموضوع، فالأصل أن نتوقف عن أن نكون أتباعاً ملحقين بالولايات المتحدة، وهذا ما يجب أن يعيه الحكام، فعروشهم بحماية شعوبهم أكثر عزة وشرفاً منها في حماية الولايات المتحدة!