الإبداع في حالتي الألم والفرح

السؤال فاتحة الكلام: هل الألم أو الفرح هو من يفتح باب الإبداع، ويشرّع نوافذه، وهو من يُلْهم المبدع على الكتابة؟

إذا أعدنا قراءة بعض صفحات تاريخ سورية، وبدأنا من القضايا الوطنية الكبرى، ومن القضايا الاجتماعية في القرن الماضي، في عهد الإقطاع والاحتلال الفرنسي لسورية، نلاحظ أن المبدعين (شعراً ونثراً)، أبدعوا الشعر والقصص والروايات ونسجوا الحكايات، التي تكشف ممارسات الإقطاع وظلم الفلاحين واستغلالهم، والسياط التي تركت آثاراً على أجسامهم.. ونفي وقتل الجنود الفرنسيين للثوار والمناضلين الوطنيين، وآلاف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم في معارك الشرف. فالشعب السوري في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، عانى ألواناً من القمع والاستغلال والاستبداد الكثير .

وقال المبدعون كلمتهم دون ريبة أو خوف، ضد الظالمين وأعداء الوطن. ومن أجل الدفاع عن الكادحين من عمال وفلاحين. وضد المستغلين من البرجوازيين وأرباب العمل والمتعاملين مع الاستعمار. والكفاح من أجل تحويل آلام الناس إلى فرح وسعادة.. وقطف ثمار النضال بالكلمة والمقاومة بأشكالها المختلفة.

أرى أن الإبداع يتوهّج في حالتي الألم والفرح، وإن كان لهيب هذا التوهج يختلف في لون الزرقة من الفاتح إلى الغامق. ولكل حالة سماتها وألقها من الناحيتين (الإنسانية والفنية). وفي حالات أخرى يحدث العكس. فعندما تتساقط الثمار وتتألم الأغصان  وتجف براعمها، تزهر أثناء الفرح أغصان الإبداع.

ويتفرّع شعور المبدع في ساقيتين من نهر الإبداع، الذي لن يتوقف سيره رغم الجفاف والسنين العجاف وانحباس المطر. ساقيتان كجناحي عصفور يتعلّم الطيران ويبدع في طيرانه وهو يغرّد بفرح. ويتقافز متنقّلاً بين الأغصان ومن شجرة إلى شجرة. ويظهر الفرق بين حالتي الألم والفرح، بواسطة حركة الجناحين وهما يرفرفان صعوداً وهبوطاً، دلالة واضحة للتعبير عن الحالتين الظاهرية والباطنية، أي حالتي الألم والفرح!

وعلى المبدع أن يرصد دون توقف، مختلف الظواهر الاجتماعية والسياسية والإنسانية، بفكر منفتح غير مغلق أو سوداوي، وعليه دائماً أن يترك ثقباً للفرح والأمل للحياة والمستقبل. وأن يجسّد ما يوحي له الإبداع، وما يتراءى من تموّجات سراب الذاكرة التي تمسح بيديها شواطئها، والتي عندما تتراجع في حالة الجَزْر، تترك خلفها أثراً طيباً لدى المتلقي، وتحقق له المتعة بعد قراءة قصة أو قصيدة أو رؤية لوحة تشكيلية.. وإذا لم تتحقق الفائدة المرجوة تغدو القراءة كالزبد الذي يتلاشى مع هبّة أول نسمة تعبر النافذة!

ومن الطبيعي أن يترافق القلق والألم ، لإيقاظ ما هو كامن في أعماق الذاكرة المبدعة، فيقتلعه من جذوره ويحبّره على الورق قصيدة أو لوحة أو قصة أو مسرحية.

وللمقارنة فائدة أيضاً.. فالدموع المنسابة من عيني المبدع، هي نفسها في الألم والفرح، لكنها في الألم تكون أكثر ملوحة ومرارة.. وتترك على الخدين ملحاً جافاً. بينما في الفرح تنساب كساقية دون قلق على الخدين. وتترافق مع ابتسامة تتراقص بين غمازتين ورديتين!

 وأرى أن المحرّض على الكتابة هو الألم وليس الفرح.. وأن الحزن لا يماثل الألم، بل هو مظهر من مظاهره. وفي الأزمة السورية الحالية.. هل يقدر المبدع أن يعبِّر عما يجري من صور القتل والموت التخريب والخطف وسواها، أكثر من الصور المرئية على الشاشة؟

وهل يقدر المبدع أن يرافق ما يجري في طول البلاد وعرضها ويعبّر عنها؟

قد يعبر الشاعر أحياناً عن بعض المشاهد، وكذلك الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتور.. ولكن بشرط أن تكون القصيدة أو اللوحة أبلغ من الصورة..! أما المبدع القاص والروائي، فيظل بحالة كمون لفترة قد تكون طويلة، كي تتخمّر المشاهد أولاً، ثمَّ يبدأ الإنتاج إبداعاً معبراً بعيد، عن القصة العادية المألوفة والمعروفة للمشاهد..!

 يقول الشاعر الكبير محمود درويش:

الألم

هو:

أن لا تُعلّق سيّدةُ البيت حَبلَ الغسيل

صباحاً، وأن تكتفي بنظافة هذا العَلَم

العدد 1140 - 22/01/2025