سيبقى ياسمين دمشق!

بعد أكثر من عامين على الأزمة، تخوض البلاد صراعاً دموياً، وتكالباً عالمياً على مقدراتها، يدفن في أرضها مئات الشهداء يومياً، وتذرف آلاف العيون دموعاً وشجناً. تنتقل الأفكار وتتخبط المعطيات بين الحل والتعقيد والتفكيك والتجريد. والمواطن يناشد كل الأطراف إيجاد الحل، بعد أن خاض تجربة الضغط والاستنكار، والتنكيل والقهر، في قوته اليومي. لعل السوري في الحقبة الماضية من الزمن أظهر ثقافته الوطنية بطريقة أدهشت العالم، حينما حمل موروثاً وطنياً خاصاً به، حمله منذ قرون عدة، أعطى دلالات وجدانية ومواقف تاريخية وأثبت صدقه وحبه لانتمائه الوطني وأرضه وعرضه. لم يتأثر بالثقافات الوافدة، وظل متمسكاً بأفكاره ومنظومته التي نهل من معينها الكثير من عاداته وتقاليده، قاصداً بلده الأم سورية، مدافعاً عن حدودها وتاريخها وإرثها، مجابهاً لما يعكر صفو عيشها المشترك، وسماع أجراس كنائسها التي تعانق مآذن الأموي، منكراً  التطرف والأحادية، ممزقاً أوراقاً كتبت الفتاوى الدموية. لم يرَ فيها سوى الحقد والكراهية، ناثراً عبير عشقه لحريته مجاهداً لأجلها، مصمماً على حقوقه وأهدافه، مؤمناً بأن سورية هي الأم الرؤوم التي لا بديل عن تربتها وهوائها في تأصيل المؤصل وتوحيد الحق والكلمة.

هل دمشق المدينة الأقدم في العالم التي أسمت أحياء باسم الوافدين إليها من العرب وغيرهم، باتت عبئاً على المرتزقة؟ فأرسلوا لنا المفخخات وحرموا أطفالنا من هدايا العيد والألعاب وأغاني المواسم؟

ألم يئنَّ الأقصى من دماء السوريين فدىً له؟ واغتسل تراب لبنان من عار الصهيونية والحرب الأهلية بدماء السوريين؟ ألم نقدم للعالم رموزاً إبداعياً، ونصنع مفكرين ومثقفين، نالوا ألقابهم من سيفنا الأموي وياسمين دمشق الفيحاء؟

ألم يدركوا ماضينا عندما كان الوطن في محنة مع الفرنسيين؟ أجمع ثوارنا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، أن (الدين لله والوطن للجميع)؟.. ألم يقف حامل الصليب على منبر الجامع الأموي وخطب بالمسلمين (إذا دخل الفرنسيون لحماية المسيحيين فكلنا مسلمون)، ألم يقل إسلامنا الحنيف (إنما المؤمنون إخوة).. 

لماذا إذاً تمر أعيادنا متسللة مذلولة بين أحياء دمشق والغوطتين والمحافظات السورية؟ لماذا لم يلعب الأطفال بألعابهم؟ والنسوة تحيك عباءات الشجن، والرجال يهزجون أناشيد الفرح وحداء المجد.

ألم يرنُ صناع القرار في الداخل والخارج أن حقوق السوريين في خطر؟ ألم يعلموا أن سرجون الذي أسس الدولة السورية قبل ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد، ستلحقهم لعنته إلى يوم البعث والنشور لخذلانهم ومواقفهم المخزية؟

 مرحى للولايات المتحدة التي جعلت من نفط العرب وسيلة خلاف بينهم، مرحى لها أن استطاعت جعل الأقزام دمى في مطبخها الأممي.. وأن تحدد ألوان أطعمتهم وشرابهم على جدران المدينة والحرم.. مرحى لأنها جعلت عباءاتهم لفافة تبغ تحرق باللحظة التي تريد.. مرحى وقد رمتهم تحت أقدامها.. لكنها بقيت عاجزة أمام أسوار الشام.. يقيناً منها ومن كل أعداء الوطن.. أن الوسام الأكبر لسورية، لشعبها، لثقافتها، لتاريخها، لأبطالها، لرجالها، لشيوخها، لنسائها وبناتها، لأطفالها، الذين حطموا دوائر الطغاة وطاولاتهم المستديرة، ومجتمعهم الدولي، وديمقراطيتهم المزيفة، وحريتهم التالفة على أعتاب الزمن، كي يغنوا (زيِّنوا المرجة، ترى المرجة لنا شامنا فرجة وهي مزينة).

نعم.. ستخرج سورية من أزمتها بعد أن تضع حمولة فسادها في مطحنة الإصلاح، ستغني أغنية النصر بعد أن تخطط استراتيجيتها بمستقبل التنمية المستدام، ستنتصر بعد أن يصبح المثقف والعالم وأصحاب الاختصاص في مواقعهم مشاركين في صنع القادم من الزمن، جالسين على طاولة الحوار الوطني المتكامل المنسجم تحت راية سورية بعلمها المزهو بدماء الأبطال، من عناصر جيشها الباسل. وستبقى تُسمِع العالم بصوت واحد موحد  نشيدها.. موطني.. الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك في رباك.. والحياة والنجاة والهناء والرجاء في هواك في هواك.

العدد 1140 - 22/01/2025