أبو فياض الذي رحل بصمت

كيف أبدأ بالكتابة؟ ومن أية محطة، في مسيرة  طويلة حافلة بالنضال للرفيق عبد الجليل بحبوح (أبي فياض)؟! كان السؤال الذي اضطرني للإجابة عنه بما تملك ذاكرتي المسوَّرة بالأسلاك الشائكة والألغام، من عودة إلى عقود ماضية، وجمع ما تركَتْه مواقد الأيام من آلام وأوجاع وأفراح وأحزان.

لقد تعلَّمنا الكثير واكتسبنا التجارب، من مدرسة الحزب.. من هؤلاء المناضلين الذين حفروا السواقي ورفدوا النهر، وتابع القطار الذي لن يتوقف مسيره الطويل في مئات المحطات، خلال عشرات السنين ولا يزال رغم العثرات والصعوبات. لقد فقدَ حزبنا عشرات الرفاق الذين رحلوا، ومن الذين أسسوا قواعده في مختلف المدن والقرى السورية.. رحلوا ولم يقدر أي ظالم ومستبد، أن يطفئ تلك المواقد وأن يحوّل حطبها إلى رماد.

وفي أربعين الرفيق أبي فياض، لا بدّ لي من العودة إلى الماضي..إلى ثلاثة عقود ونيّف..إلى تلك السنين المزهرة بالعمل اليومي، وإلى تلك العلاقة الرفاقية والصداقة التي لم تعكّرها الرياح الرملية الهابة عليه من مناطق وجهات مختلفة ومتعددة. 

ويمكنني بهذه السطور القليلة أن أقول، إنني سمعت باسم أبي فياض عام 1970 ، عندما احتفل الحزب علناً أمام سفارة الاتحاد السوفييتي، بالذكرى المئوية لميلاد ف.إ. لينين (1870-1970) وفي هذا العام اعتقل الرفيق عبد الجليل والرفيق أحمد مصطفى الزعبي. وكان الرفيقان موظفين في الوكالة السورية للأنباء. وعلى أثر الاعتقال استشهد الرفيق أحمد الزعبي (من محافظة درعا). وازددت معرفة بهذا البيت الشيوعي الأصيل بعد قراءة كتاب (لينين والمرأة) للرفيقة زينب نبّوه، التي عرفتها من قرب في اجتماعات كادر منظمة دمشق. أما أبو فياض فأخلي سبيله بعد أن عُذّب. ومعظم الرفاق يعرفون أنه كان من السبعين رفيقاً الذين صمدوا وظلوا في معتقل المزَّة مدة ثلاث سنوات في عهد الوحدة السورية المصرية.

ومن خلال معرفتي بالرفيق الراحل، يمكنني أن أطلق عليه (أرشيف الحزب) من خلال ملازمته اليومية، نظراً إلى طبيعة العلاقة الحزبية بيننا، طيلة اثنتي عشرة سنة (1979-1991) وكان متابعاّ دؤوباً للصحافة السورية والعربية، نظراً لطبيعة عمله في وكالة الأنباء السورية (سانا). كان يقصّ المقالات ويسجّل عليها مصدرها والتاريخ، ويضعها في مغلفات للرفاق في القيادة ولعدد من الكوادر الحزبية، إضافة إلى أنه كان يقدم زوّادة أدبية للمهتمين بالأدب من أمثالي. ويقوم بتصويرها وترتيبها.

وكان الرفيق عضواً في المكتب السياسي في المؤتمر السابع الموحد، لكنّه وبتفانٍ ورغبة ذاتية لم يرشح نفسه في دورة ثانية. وبهذا يكون قد فتح المجال لرفاق آخرين.. وهذه سمة طيبة للرفيق بنكران الذات والتفاني في العمل وتجديد الهيئات الحزبية.

لم أقطع زياراتي لهذا البيت الذي كان في معظم الأوقات مكاناً مضيفاً، لجميع الرفاق في منظمات الحزب. وعندما مرض الرفيق بمرض عضال، كانت الزيارة الأخيرة له.. وقد تغيّرت صورته آنذاك عن صورته التي رسخت في ذاكرتي.. ملامح الخشونة التي تخفي تحت جلدها الأمانة والصدق ونكران الذات وتحمّل الزنازين الرطبة والتخفي والنضال السري. وإلى جانبه رفيقة الدرب أم فياض.. الرفيقة المناضلة التي لم تهن عزيمتها، فهي الرفيقة والزوجة الصبورة المتفانية الباشة دائماً.

رأيت أبا فياض جسداً نحيلاً، يداه لم تتوقفا عن الرجفان. هاتان اليدان سجلتا تاريخاً من عذاب وتعذيب السجَّانين، في الأقبية المعتمة والرطبة. وطبقة صفراء تلوّن وجهه.. ولم تمضِ سوى أيام حتى جاء خبر رحيله.

لقد رحل الرفيق عبد الجليل بحبوح، في ظروف أمنية صعبة. لم يقدر معظم الرفاق أن يشاركوا في موكب الجنازة إلى مقبرة(الباب الصغير). وكان الوداع الأخير… لكن الرفيق الراحل سيظلّ في سجل كوكبة  المناضلين الشيوعيين ومن القادة البواسل الصامدين ما ينوف عن خمسة عقود..  رفيقاً صلباً وصفحة مشرقة من تاريخ الحزب الشيوعي السوري (الموحد).

العدد 1140 - 22/01/2025