أخلاقيات مشوّهة في أزمات قاتلة

من البداهة بمكان أن يكون بين البشر تعاطف أخلاقي- إنساني، وتكاتف اجتماعي يُلازم تعرّض أي مجتمع لأزمة ما، سواء أكانت كوارث طبيعية أم حروباً ونزاعات مسلحة أو ما شابه.

ومعروف عن العرب نصرتهم للمظلوم، وإغاثتهم للملهوف، وعطفهم على المحتاج واليتيم وعابر السبيل.. لكن، إلى أيّ مدى نجد هذا صحيحاً وواقعياً في حالتنا السورية الراهنة..؟ وإلى أيّ حدٍّ ينطبق هذا الكلام على الكثير من السوريين الذين ما وجدوا في هذه الأزمة إلاّ مصدراً لتكديس أرباحهم وزيادة أطماعهم، وطبعاً على حساب البشر المصابين بشكل أو بآخر بنيران هذه الأزمة، تلك النيران المتعددة والمتنوعة ابتداءً من رغيف الخبز، وليس انتهاءً بالدواء.

لقد ظهرت في السنتين الماضيتين من عمر الأزمة ممارسات وأخلاقيات يندى لها جبين البشرية، إذ طغى النهب والطمع والجشع، وتعالت قيمة الأنا لدى معظم الناس على اختلاف شرائحهم ومهنهم(بعض الموظفين) بشكل لافت ومقزز في معظم الأحيان. فقد اتخذوا من حاجة الناس مصدراً للتجارة القائمة على الحاجة والضغط تحت مفهوم خاطئ للأسف- التجارة شطارة، وعليك اقتناص الفرص.. إلخ- حتى بات الناس في حيرة من أمرهم وتخبطهم بين إمكاناتهم المادية الشحيحة أمام تضخم حجم النهب، وما بين حاجتهم الملحّة لسلع ضرورية وأساسية كالخبز والمازوت والغاز حتى الدواء، دون رحمة أو وازع من ضمير.

صحيح تماماً ومعلوم جيداً أن مثل تلك الأزمات تخلق نقصاً في الحاجات الأساسية للناس، لكن ليس إلى الحدّ الجنوني الذي وصلت إليه الأمور بزمنٍ قياسي في بلدنا، وبوتيرة زمنية متسارعة صارت تُقاس بالساعات. حتى سادت عبارة(كم الثمن الآن، وليس اليوم)، وهذا دليل على أن الأسعار كانت وما تزال تُحلّق بارتفاعات قياسية بين ساعة وأخرى، إضافة إلى حجب العديد من هذه السلع لأيام كي يجد أولئك الجشعون مبرراً لدناءتهم وخستهم أمام حاجة الناس من جهة، ولترويض أولئك المحتاجين نفسياً على قبول هذا الوضع. بل ودفعهم إلى توجيه الشكر لمن يؤمّن حاجاتهم بأي سعر، حتى بات بطلاً من يحصل على حاجاته ولو بأسعار خيالية. المهم أنه حصل عليها. هذا لجهة ممارسات التجّار أو مقتنصي الفرص من الموظفين بأماكن تساعدهم على تلك الممارسات (موظفي المحروقات، الأفران، التموين، الأدوية… إلخ).

أما لجهة المواطن، فللأسف طغت الأنا إلى مستوى مبتذل عملاً بالقول الشهير (أنا ومن بعدي الطوفان)، حتى صار بعض الناس القريبين من هؤلاء الموظفين أو الواصلين يكدّسون المواد المفقودة أو الشحيحة في السوق وبالأسعار الحكومية النظامية، دون الشعور بمدى حاجة الآخرين الذين لا سند لهم ولا دعم. إضافة إلى المسلكيات التي انتهجتها العامة من الناس في تكديس المواد التموينية في بيوتهم بكميات لا تتوافق مع احتياجاتهم الآنية، ظنّاً منهم أنهم يقون أسرهم الحاجة، دون النظر إلى أسر فقيرة لا تستطيع بإمكاناتها المادية الضئيلة تأمين احتياجاتها الآنية، فكيف بتأمينها لفترات طويلة بدءاً من الخبز وانتهاءً بمواد أقلّ احتياجاً.

بديهيٌ تماماً أن تلك الظروف، سوف تخلق بشكل تلقائي أزمات من هذا النوع، بحكم ما يجري على الأرض من نزاع يؤدي إلى قطع الطرقات، أو الاستيلاء على مخازن المواد التموينية الأساسية، أو تدمير بعض البُنى التحتية التي تقوم بإنتاج هذه السلع. وبالتالي يُصبح تأمينها متعذراً على الحكومة. لكن السؤال الملحّ في الحالة السورية: إذا كان هناك شُحّ في هذه المواد بسبب تلك الظروف المذكورة آنفاً، فكيف توجد لدى المحتكرين بكميات كبيرة؟ فمثلاً مادة المازوت التي بسببها سجّل المواطنون لدى البلديات على كمية حددتها الحكومة لكل أسرة، على أن تُوزّع بأسعار نظامية في موسم الشتاء، هنا نجد أن البلدة أو المنطقة نفسها لم يحصل فيها المواطن على حقه الذي اعترفت به الحكومة بهذه الطريقة. لكن في الوقت ذاته تكون هذه المادة موجودة في المكان نفسه بكميات كبيرة، لكن بأسعار خيالية، ألا يسترعي هذا الوضع الانتباه والتساؤل؟ كيف توجد المادة بالسعر الحر، ولا يمكن تأمينها للمواطن بالطريقة التي ارتأتها الحكومة؟ أليس هناك سماسرة ووسطاء ينهبون مخصصات المواطنين من الحكومة ذاتها، أو من محطات الوقود التي عليها أن تقوم بتوزيع المادة بالسعر النظامي؟

من الطريف أن بعض الأسر حصلت على حصتها الأولى واستلمت قسائم حصتها التالية، في حين أن العديد والكثير من الأسر قد اضطرت لشراء المازوت بسعر السوق الخيالي، لأن موسم البرد انقضى وهي تنتظر دورها الموعود الذي ربما لن يأتي حتى الشتاء القادم. ومثل ذلك الخبز، المادة الأساسية والضرورية لكل الناس، لم تسلم من جشع مقتنصي الفرص حتى من العاملين في الأفران أنفسهم. فأنت تجد أمام الأفران أشخاصاً وأطفالاً يبيعون ربطة الخبز بأضعاف أضعاف ثمنها العادي، وفي الوقت ذاته تجد طوابير المنتظرين تصل إلى مسافات مذهلة وبحشود تجعل الناظر إليهم يُشفق على وقتهم وعافيتهم المهدورة أمام حاجتهم لربطة الخبز بسعر يناسبهم. وهنا تأخذ تلك المعضلة اتجاهين في نشوئها، الأول هو كما أسلفت ممارسات العاملين داخل الأفران، والاتجاه الآخر هو جشع بعض الناس الذين يقومون بالمناوبة يومياً من أجل تكديس الخبز في بيوتهم غير عابئين بأناس يحتاجون فقط لربطة واحدة يُطعمون بها صغارهم. وباعتقادي القياس سيطول إن أردنا تناول كل سلعة أو حاجة من حاجات الناس.

إن ما أفرزته الأزمة السورية من أخلاقيات مشوّهة ومريضة، فرض على المجتمع ممارسات شوّهت وخالفت قيمه المعهودة حتى باتت قيماً خُلّبية في مرحلة تتطلب المزيد من التعاون والتآزر والتعاطف الإنساني، فهل يعي الناس مقدار تشوههم ويعودون إلى إنسانيتهم ولو بحدودها الدنيا؟!

العدد 1140 - 22/01/2025