بذور.. وقشور..
تصدأ السّيوف والخناجر إذا بقيت طويلاً خارج أغمادها وبيوتها، وتموت الورود وتُنتهك حرمتها إذا لم تحمها بعض الأشواك الجارحة، ويتلاشى الدخان ويختفي إذا انطفأت النّار وسُكب فوقها الماء والتراب، ويختنق الجمر ويضعف إذا تفرّق فحمه.
والشجر الطيب ظليل مثمر، أغصانه متقاربة، متّحدة، والشجر العاقر فيئه شحيح، وأغصانه يابسة، مُتباعدة.
(وقبضة اليد أقوى من اليد، مع أنها ليست سوى اليد).
إن الأشياء الصغيرة إذا اتّحدت كونت باتحادها قوة عظيمة، حتى البذور والقشور تجتمع في أصل الثمرة وسطحها لتمدّها بالقوة وتحميها من الحشرات السّامة، والطيور المارقة.
فصحيح أن قشور بعض الثمار وبذورها غير صالحة للأكل والهضم، لكن الصحيح أيضاً أنه لولا البذور والقشور لما نضجت الثّمرة وأصبحت قابلة للأكل، فكل قشرة هي مثل الجمجمة من الدماغ، وكل بذرة مثل الحجر الكبير المخفي تحت التراب، والذي يحمل بقية الأحجار الصغيرة من فوقه.
أليس كلامنا وأعمالنا تشبه في كثير من الأحيان الثمار والفاكهة..؟ فيها القشور، وفيها البذور، وفيها اللّب المنقسم إلى أنواع، منها الحلو ومنها المالح ومنها المرّ ومنها الحامض.
وكلما تضاءلت معرفتنا وقلّت هيبتنا، كانت قشورنا أكبر من حشوتنا وبذورنا أكثر من أفعالنا، وبالتالي كان نقدنا سطحياً ونقاشاتنا عقيمة، فجّة وغير ناضجة.
وإذا سقينا الحنظل هل سيزداد إلا صبراً ومرارة؟
ولا تغيّر الثعالب من عاداتها وإن أطعمناها اللّوز والسكر، ولن يصبح الحمار حصانا و إن عاش جنباً إلى جنب مع الأحصنة الأصيلة، وكيف سنعلّم الديدان أن لا تنهش الجثث المتعفّنة؟ والضباع أن لا تسرق طعام الآخرين، والكلاب أن لا تنبح ليل نهار فوق المزابل؟
ولن تطير الأفاعي حتى لو ابتلعت أجنحة كثيرة، ولا تصبح الكلمات من ذهب إذا كُتبت بقلم مُذهّب، ولا تقل قيمة الفيلسوف إذا كان رثّ الثياب وكان حذاؤه بالياً، وهل يزيد الكلام الجميل والمواعظ العظيمة السّفهاء إلا سفاهة وجهلاً؟
ويبقى النهر نهراً وإن غيّرنا مجراه، وتظل القمة عالية وإن أقام فوقها الصغار، وبنى عليها الأقزام بيوتهم.
وليس من عادات الصقور أن تبني أعشاشها في بيوت الجرذان، ولا الضفادع الصّهيل، ولا من شيم الحيتان السباحة في المستنقعات والسواقي الضحلة.
(وما أكثر الذين يعتمدون على أحذيتهم لرفع رؤوسهم).
إنّ الكثيرين ممن حولنا تسكنهم المقابر وهم ما زالوا على قيد الحياة، والبعض القليل يبقى حياً وإن دُفن تحت التراب.