نادِ للفكاهة السوداء!

هل التمساح يطير؟ هل بوسع الأفعى أن تعمل ماسحة أحذية؟ هل نستطيع أن ندخل الفيل بثقب إبرة؟ وهل يستطيع الإنسان أن يمشي على رأسه، كما تساءل بذلك يوماً الأديب الراحل غسان كنفاني؟!

مازال صديقي يقنعني بالانضمام إلى ما يسميه (نادي للفكاهة السوداء)، فقلت له: لماذا هي بهذا الاسم؟ هي الفكاهة فحسب، وهل ثمة فكاهة سوداء أكثر مما يعيش المرء هذه الأيام التي لا تشبه إلا الفكاهة بكل ألوان الطيف؟ ما يجري على المسرح لم يترك أي متفرج، أحسب أن الجميع على الخشبة يمثلون ويتندرون، ويخرج معظمهم عن النص ربما ليبدع نصاً جديداً؟

أعدت السؤال غير مرة، لعلّي أقنعه بأن لا هوية للفكاهة، وبفعل الحداثة، وما بعدها، فقد ننتظر ما بعد الفكاهة، وربما يتاح لنا أن نضحك دون أفواه وأن نبتسم دون أن يرى أحد أعيننا، وفي ذلك تبقى فكاهتنا داخلية لا أحد يراها، أو يدركها. قال لي: لنكافئ الحياة على بعض شرورها، فهي قد وضعتنا جميعاً داخل نسيجها الدرامي، فبتنا لا نعرف أي منا يمثل وأي منا يتفرج؟ لعله مسرح غريب، لكنه مثير إلى حدّ الحزن!

عدت إلى السؤال مجدداً: وكيف سيكون الانتساب لذلك النادي العتيد؟ قال لي على عجل: لا يحتاج ذلك النادي إلى أوراق ثبوتية على الإطلاق، ولا شهادات تعريف من أحد، ما يحتاجه فقط هو أن تبقى كما أنت بجهوزية عالية على أن تشاطر القدر ضحكاته، وإياك أن تسهو حينما يسرد لك القدر فكاهة طويلة، إياك أن تقاطعه بشرود قسري أو باستحضار دمعة عابرة على تخوم القلب، بل دع الريح تمسد شعرك، هذا إن بقي على قيد رأسك، ودع الريح تنتعلك إن أضعت حذاءك، وإذا عاندتك الكهرباء ولم تجد شمعة حتى لدى الجيران، فلا تذهبنَّ مذاهب الرومانسيين بالجلوس في ضوء القمر، لأن ما أخشاه أن يكون القمر شاحباً فينعكس ذلك على الوجوه فلا نرانا.

وعلى عجلة من أمر صديقي حاولت أن ألفته إلى رخصة ضرورية لنادٍ كهذا لأنه قد يكون ممنوعاً، أو خطراً، لسبب بسيط هو أنّ قلوب أكثرنا ليست على أهبة الضحك والابتسام، وكثيراً ما نسمع (قلبي ميت، أمتّني من الضحك، أمتّني من الجوع، أمتّني من الانتظار) يا لهذا القلب الذي يموت قبل أن يستمتع بظرافة النادي وبظرفائه الكثيرين، الذين ينتشرون هنا وهناك دون أن يعرفهم أحد، ولعلك كي تكتشفهم، عليك إن رأيتهم يتحدثون مع ذواتهم، ألا تصر على أن تعرف من هو الذي يتحدثون معه، ويتشاجرون، وربما تنزل دماء في الشارع، بل دعهم يفعلون ما يحلو لهم من ممارسة ضحكٍ موازٍ، لضحكات القدر وما أكثرها! لا سيما حينما نعجز عن التفسير، وكما يقال والتأويل أيضاً للموت خارج قدره، يمر ضاحكاً ويقول أحدنا: لعلّه سيخطئني هذه المرة! وهنا تداعت فكرة لا أعلم مدى صوابها لتعتمد في نادي الفكاهة السوداء.

فمثلاً قرر فيلسوف أن يمنع البكاء في جنازته، وطالب مشيعيه بأن يبتكروا نكاتاً جديدة إن نسوا نكاتهم القديمة، وأن يستمر الضحك حتى يوارى الفقيد الثرى، وعلمت مؤخراً أن ثمة أثرياء اشتروا قبوراً في المريخ، يعني أن الأرض لم تعد تتسع لهم، ففضلوا موتاً طائراً، وعلى الأرجح أن من سيضع الورود على قبورهم هناك ربما لا يكونون من جنس الملائكة أو البشر!.

وأزعم أن النادي المزمع انطلاقه قد يتسع لعشرات المشتركين، الذين ربما لم يطلبوا ذلك، لكنهم سيرون أسماءهم معلقة في لوحة الإعلانات، لكثرة ما استبدت بهم الفكاهات السوداء، فأصبحوا دون وعي أبطالها، وبعضهم اكتفى بدور (الكومبارس)، وعلى ذكر هذا (الكومبارس)، فإن الكثيرين من الناس يعتقدون بأنه أعظم الأدوار وأمتعها، وهو من يجذب الجمهور ليتعاطف معه ويصدقه في مقالب حياته، حتى لو انتهت تلك الأعمال، سيظل على الخشبة (كومبارساً) كما في الحياة، وهذا الدور سيظل علامته الفارقة حتى بعد رحيله عن الأرض، فلعل (الكومبارسيين) في عالم آخر سيجدون به العزاء الكبير، والمؤانسة الماتعة.

سأعلن انتسابي لذلك النادي، على الرغم من أنني لا أحتاجه، فقد ولدت معي الفكاهة السوداء لحظة رأت عيني النور لأول مرة، لأن ثمة عالماً لم أختره لأجيء إليه ولو ضيفاً!.

لأنني أزعم من جديد أن الضحك لم يستفد بعد، فقط لا تلونوه ولا تغرقوه بألوان لا يحتاجها، مادام اللون الوحيد الذي يميز كائناتنا العاقلة.

العدد 1140 - 22/01/2025