شائعات الأمس وأكاذيب اليوم

في عام 1986 كان العالم على موعد مع مرور مذنب هالي الشهير بالقرب من كوكب الأرض. واستحوذ الحدث الفلكي على اهتمام سكان الكوكب وتحفزت وسائل الإعلام ومراكز الرصد الفلكي لمواكبة هذه الظاهرة الطبيعية الدورية التي بات تكرارها كل 76 عاماً من المسلّمات العلمية والتاريخية على حد سواء. فقد ورد ذكرها في الكثير من المدونات التاريخية، ومنها بعض كتبنا التراثية التي أرّخت العديد من حالات حدوثها المتواترة (ابن إياس في كتابه بدائع الزهور، وابن الجوزي في كتابه المنتظم). كل ذلك لم يمنع البعض من أبناء القرن العشرين من النظر إلى عودة هالي بمنظور ميثولوجي بحت، أفرز شائعة مفادها أن المذنب في طريقه لاصطدام محتم بالأرض. وتواترت الروايات عن سيناريوهات مرعبة تنتظر الكوكب وساكنيه.

كنت وقتئذ في الصف الرابع الابتدائي، وشاءت الأقدار أن تكون معلمتي من معتنقي تلك الفكرة الرهيبة، أو لعلها قد رأت في الظاهرة مناسبة استثنائية وفرصة لا ينبغي تفويتها لترهيب ووعيد بعض تلامذتها الأشقياء عبر تجيير أبعاد ومغزى الحدث الكوني لتناسب غايتها التربوية النبيلة. وقد نجحت إلى حد بعيد في إقناع عقولنا الغضة بأن الأمر برمته هو عبارة عن غضب رباني قد حاق بالبشرية، مرده سوء سلوك بعض الأطفال وعدم انصياعهم لتعليمات الأهل والمدرسة. حدثتنا بإسهاب عن الدمار والخراب والحرائق والعصر الجليدي الجديد وما إلى ذلك من مشاهد هوليودية مؤثرة، ثم لتطمئن قلوبنا الراجفة أخيراً بأن ثمة فرصة للنجاة تتمثل بالتوبة النصوح عن ارتكاب الخطايا والموبقات الطفولية، والعودة إلى جادة الحق والصواب. ومرّ هالي مرور الكرام مجرجراً ذيله خلفه دون أن يترك أي أثر باستثناء تلك الصور الرهيبة الماثلة في مخيلة طفل كذكرى لا تمحى. ذكرى دموع الخوف والتضرع والكوابيس المرعبة عن أهل وأحبة يصطلون ناراً أو يتجمدون برداً.. كانت مجرد شائعة، وكان ذلك أول عهدي بالشك في كلام الكبار.

ثم بعد نحو عقد من الزمن، كان لنا موعد جديد مع شائعة من نوع آخر.. في مشهد كيوم الحشر، تقاطر الناس إلى الساحات والحدائق العامة حاملين ما خف وغلا من متاعهم ليبيتوا ليلتهم في العراء هرباً من منازلهم التي لن تصمد حتماً أمام شدة الزلزال المدمر الذي سيضرب المنطقة بأسرها عند منتصف الليل تماماً، زلزال استشعرته عشرات آلاف المخيلات الخصبة قبيل وقوعه بساعات بقدرة حدس خارقة لا بد أثارت حسد وحرج أهم مراكز الرصد الزلزالي العالمية التي طالما عجزت عن التنبؤ بوقوع زلزال ما ولو قبل دقائق من حدوثه، لتسطع شمس الحقيقة في الصباح على جموع المخدوعين العائدين إلى بيوتهم يجرجرون أذيال سطحيتهم وسذاجتهم.. مجرد شائعة أخرى لا أحد يعلم كيف اندلعت وتفشت.

المشهد ذاته لا ينفك يطالعنا من حين إلى آخر.. مرة بإعصار لا يبقي ولا يذر، وأخرى بكسوف شمسي سيحولنا إلى جماعة من العميان على طريقة (جوزيه ساراماغو)، وثالثة بطاعون كامن في عبوات المتة، وأخرى فاقت كل سابقاتها رواجاً تتحدث عن نوع من الأحزمة غزا الأسواق يسلب الرجال فحولتهم، لدرجة أنها خطفت الأضواء من تلك الشائعة العالمية عن نهاية الكون في نهاية الألفية الثانية. وغيرها من شائعات غامضة النشأة والأسباب والبواعث لم تنل ما تستحقه من تأمل ودراسة، خصوصاً من حيث اختلافها الجذري عن أنماط الشائعات التقليدية المعتادة التي يمكن استشفاف العوامل النفسية والمادية لرواجها من خلال توقيتها أو موضوعها المستوحى غالباً من تمنيات وآمال طال انتظارها كتلك الشائعات الحاضرة باستمرار عن زيادة مرتقبة للرواتب والأجور.

بكل الأحوال.. أياً كان مدى الرواج الذي لاقته هذه الشائعة أو تلك، لا يمكننا اليوم – من حيث النتيجة – الخروج بتلك الوقائع عن كونها مجرد شائعات (حميدة) إن جاز الوصف، لم تترك أثراً سلبياً يذكرنا بها، فكاد يطويها النسيان إلا أن ترِد عرضاً على سبيل التندر والفكاهة. ولكن يبدو – من حيث النتيجة أيضاً – أن هذه الوقائع قد كمنت في لاوعينا كتجربة مبكرة أسست لحالة إيجابية لمسنا بعضاً من نتائجها لاحقاً، على مبدأ رب ضارة نافعة، لقد زرعت في عقولنا بذرة الشك بالمعلومة ووجوب التحقق منها والتقصي عن مصدرها قبل التسليم بها كحقيقة، لعلها كانت أشبه باللقاح الذي طور لدينا نوعاً من المناعة مكّنتنا من تفادي الوقوع في شرك أُعد بعناية لينتقل بمفهوم الشائعة إلى مستوى آخر.. وابل من الأكاذيب المحددة الغاية والهدف.. شبكة محكمة من الأضاليل القذرة الممنهجة الإعداد والأسلوب، حيكت بعناية ودقة ونُصبت ببراعة وإتقان، سُخرت لها إمكانات مادية وتقنية خرافية، كل ذلك ضمن سياق مخطط شيطاني كفيل بتحويل أسوأ كوابيسنا إلى حقيقة واقعة مسّتنا بعض مظاهرها وتجلياتها بقسوة.

لم نقع في الشرك المموّه بعناوين ومصطلحات براقة فتداعت أحلام مُعديه وانحسرت كوابيسنا، ولكننا مازلنا نخوض غمار عاصفة تنذر بالمزيد. ولا شك أن أمامنا الكثير مما يتوجب علينا فعله لكي نستطيع الادعاء بأننا قد بلغنا حالة مثلى من المناعة تتيح لنا الاطمئنان التام لقدرتنا على تجاوز أية حالة مشابهة مستقبلاً. فالأساليب تتطور باستمرار والأدوات تتبدل من مرحلة إلى أخرى، ولكن يحق لنا على الأقل الادعاء وربما التفاخر أيضاً بأننا امتلكنا من الوعي ما مكّننا من الصمود في وجه سلاح تدمير شامل، ما طوّر حتماً على مدى عقود من الدراسات والأبحاث الممولة بسخاء ليقتصر تأثيره على جعلنا نضطر لقضاء ليلة صيفية في العراء، أو لحرماننا من الاستمتاع (بكاسة متة) صباحية، بل لتحقيق ما عجزت وسائل الحرب التقليدية عن تحقيقه. وقد أثبت هذا السلاح فعاليته الاستثنائية غير مرة حين استُخدم أداة لتفكيك بلدان كبرى وقلب أنظمة وإشاعة الفوضى (الخلاقة!) في بقاع شتى من العالم.

سُئل الإمام علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه: كم بين الحق والباطل؟ فأجاب: أربع أصابع، ووضع يده على أذنه وعينيه ثم قال: ما رأته عيناك فهو الحق، وما سمعته أذناك فأكثره باطل.

معيار بسيط العبارة عميق المعنى يلامس جوهر القضية الذي غالباً ما يتجلى بمفردات نمطية من قبيل : قيل – يقال – سمعت… وما إلى ذلك من ألفاظ استهلالية ضبابية تلقي بعهدة الرواية على مجهول نقل عن مجهول آخر.. وتفتح الباب على مصراعيه أمام صيادي الماء العكر ليمارسوا ألاعيبهم في ذلك الهامش المتاح دوماً ما بين الشك واليقين.. الحق والباطل.

ولأننا نعيش في عصر استحق عن جدارة اسم عصر ثورة الاتصالات يغدو التحدي أكبر والخطر أدهى، ولكن يبقى الكذب هو الكذب في كل زمان ومكان، ويبقى الرهان على الوعي

العدد 1140 - 22/01/2025