المجتمع السوري… والحاجة إلى إعادة التأهيل
بعد أكثر من عامين، لاقى خلالهما السوريون على مختلف شرائحهم وأعمارهم ما لاقوه من أنواع متعددة من الأهوال والمصائب والأحزان والفواجع التي نهشت كيانهم النفسي والإنساني، حتى باتوا أشباه بشر يعبرون الحياة خالي الوفاض من أدنى مقومات الإنسانية التي اتصفوا بها على الدوام، والتي هي زادٌ أساسي لكل كائن على وجه الأرض كي يعيش الانتماء بكل أبعاده ومقوماته بكثير من الأمان والكرامة والسلام الروحي. إنه انتماءٌ يُشعِر الإنسان أنه مواطن في بلد هو قوامه وأساس وجوده المادي والمعنوي، بل هو أساس رفعته وتحضّره وتطوره بما يحمله من قيم إنسانية وأفكار خلاّقة تدفع بالمجتمع والحياة نحو مستقبل يليق بالوطن والمواطن.
فما عاشه عموم السوريين على مدى عمر الأزمة في البلاد أفقدهم إحساسهم بالتوازن النفسي والعاطفي نتيجة الضغوط المختلفة والخوف اليومي على مصير مجهول الأفق، فكانوا جميعاً فريسة الشدّائد النفسية المختلفة التي أطاحت بالحياة الطبيعة، والشعور بالأمان والاستقرار، حتى لأولئك الذين يعيشون في مناطق آمنة أو شبه آمنة، فكيف بالذين فقدوا كل ما يملكون، لا من المال والممتلكات فقط، وإنما من كل مقومات الحياة الطبيعية للبشر بسبب الموت والدمار والخراب الذي لحق بهم، والأحزان والهموم التي تشبثت بأيامهم فأحالتها ركاماً مدمّراً بعدما فقد الكثير منهم منازلهم التي هُجّروا منها طواعيةً أو قسراً أو دماراً. تلك المنازل التي عبقت بذكريات العمر وتعب سنين غير قليلة في التأسيس والتأثيث، فصارت اليوم ركاماً منثوراً، أو هيكلاً خالياً من كل ما كان يشغله بالأمس من أثاث أو بشر، إمّا بفعل الدمار والقتل، أو بفعل النهب والسرقة التي استشرت في المناطق التي وقعت تحت وطأة الأزمة، التي لم تُبقِ على شيء.
ولا ننسى أولئك النازحين أو المشردين الذين تاهت بهم سبل الحياة وجرفتهم إلى أماكن قصيّة عن حياتهم المألوفة داخل البلاد وخارجها، فذاقوا مرارة الغربة والوحشة، إضافة إلى ذلّ السؤال من أجل الحصول على ما يسدُّ الرمق أو يستر الجسد المنهك، لاسيما أن أولئك النازحين خارج البلاد قد صاروا ورقة يتمُّ الضغط بواسطتها للحصول على مكاسب مادية ومعنوية للدول التي وصلوها رغم أنهم لم يجدوا ما كانوا يأملون من حياة أكثر استقراراً وأماناً وبعض كرامة كانت قد وفرتها سورية والسوريون لأشقائهم من هذه الدول في الماضي.
ناهيك بعمليات القتل والخطف والاعتقال والتعذيب التي حوّلت الإنسان إلى مجرد سلعة تتم المقايضة بها، رغبة في الحصول على المال أو السلاح أو ما شابه، دون إدراك لما تُخلّفه تلك الممارسات اللاإنسانية في النفس وإحساسها بالعدمية وعدم تقدير الذات. وكذلك عمليات الاغتصاب التي تعرّضت لها النساء والفتيات في تلك المناطق سواء انتقاماً، أو شهوة حيوانية دفعت صاحبها باتجاه نزوات غريزية أطاحت بكل القيم الأخلاقية، وبحياة ومستقبل إنسانة ذنبها الوحيد أنها أنثى أولاً، وثانياً أنها تمثل شرف العائلة في منطقة معادية للمغتصب. ومعلوم تماماً ماهية الآثار النفسية والجسدية والاجتماعية التي يُخلّفها جرم الاغتصاب على النساء والفتيات. كذلك لم يسلم الأطفال والشبّان والرجال من شناعة الاغتصاب القائم هنا إما على انتهاك الطفولة وبراءتها من أجل تحويل الأطفال إلى شاذّين أو مجرمين أو مقاتلين، وإما على سحق الرجولة وإطفاء جذوتها انتقاماً بشعاً وفظيعاً بما يخلّفه من آثار نفسية عميقة تأخذ بصاحبها إلى مسارب بعيدة عن المشاعر الإنسانية والحياة بصورة سوية قد تحوّله في لحظة إلى مغتصبٍ أشد فتكاً ممن اغتصبه انتقاماً لرجولة مسفوحة على أعتاب الحقد والكراهية.
وإذا ما بقينا في حالة الاغتصاب، فإن ما لقيته نساء سورية وفتياتها النازحات خارج البلاد، هو إجرام بكل الاتجاهات، بسبب تسليعهن والمتاجرة بهن عبر شبكات دولية تعمل بتجارة الرقيق، أو عبر أنواع مختلفة من مسميات الزواج الذي يخفي دعارة مشروعة ببعض مهر هو أدنى بكثير مما تحتاجه عائلات أولئك الفتيات الصغيرات، أو حالات العمالة النسائية السورية كخادمات في البيوت مقابل أجور زهيدة لا تكفي لسد احتياجات الأسرة. وهذا كله يجعل أولئك النسوة أسيرات ضغوط نفسية رهيبة تجعلهن فريسة ثورات غضب جامح ربما يُطيح بكل المشاعر والأحاسيس الإنسانية في الحياة ومتطلباتها.
ولا ننسى تشرد الأطفال وتسوّلهم ودخولهم مبكراً مجالات عمل لا تتلاءم وأعمارهم ونمو أجسادهم الغضة، مخلفين وراءهم عالم الدراسة بكل ما يحمله من متعة المعرفة وجمالية الحياة وشغبها وبراءتها، حتى بتنا نرى أفواجاً من الأطفال الصغار يعملون بمهنٍ لا تسد رمق جوعهم، غير آبهين بمخاطر أماكن وجودهم، ومع أناس ربما يشكلون خطراً داهماً عليهم.
وأيضاً، أولئك التجّار والصناعيون ممن فقدوا مصادر رزقهم وتجارتهم وصناعتهم بسبب ما يجري، فباتوا بين ليلة وضُحاها يعملون في أفضل الأحوال عبر بسطات على الأرصفة يعرضون فيها بضائعهم، اتقاءً للحاجة وذُلّ السؤال، وآخرون لم تساعدهم الظروف فأصبحوا عاطلين عن العمل، وعالة على أسرهم التي لا تجد لها معيلاً.
إنّ ما لقيه المجتمع السوري خلال عامين ونيّف يفوق قدرة أيّ مجتمع على تحمّله، لاسيما شرائح النساء اللواتي يحملن الوزر الأكبر في المجتمع لصلتهن الوثيقة بكل الاتجاهات(أم، أخت، ابنة، زوجة، عمّة، خالة… إلخ)، وكذلك لتعدد المهام المنوطة بهنّ على مختلف الأصعدة المادية- الاقتصادية، والمعنوية- النفسية والصحية. إضافة إلى أولئك الأطفال الذين فقدوا براءتهم ونقاءهم، وإحساسهم بالأمان المطلوب لحياتهم في ظل ما عايشوه من رعب وقتل وتهجير وخراب، ذلك أنهم عماد مستقبل البلاد وتطورها.
قد يطول الحديث إذا ما أردنا تناول كلّ شرائح المجتمع السوري، ولكن إذا ما نظرنا إلى الشرائح المذكورة أعلاه يمكننا تلمّس مقدار الضغوط والأزمات والهزّات التي عمّقت الخراب النفسي والتشوّه الذي لحق بهم، كما يمكننا معرفة مدى حاجة هؤلاء للدعم والعلاج النفسي الضروريين من أجل حياة أقل توتراً وأكثر توازناً. لذا على وزارة الصحة بالدرجة الأولى بالتعاون مع الجامعات السورية، وكذلك الجمعيات والمؤسسات المعنية بالصحة النفسية، وجميع المختصين بالعلاج النفسي والإرشاد الاجتماعي محاولة تكثيف الجهود، والوصول إلى أكبر عدد من أولئك المتضررين في محاولة لتقديم الدعم النفسي والمعنوي الإنساني، والإرشاد الاجتماعي كي يحافظوا على ما تبقى من رمق الحياة شبه الطبيعية، لأن عموم السوريين لا يتمتعون بالحياة الطبيعية ولن يتمتعوا بها لأمد غير قليل بسبب استمرار الأزمة وما يتبعها من اهتزازات اجتماعية واقتصادية وسياسية تُلقي بظلالها الثقيلة على حياتهم على المدى البعيد.
فمنذ اليوم علينا جميعاً التعامل مع المقربين منّا، ومع شرائح المجتمع كافة معاملة فيها بعض الدعم المادي والمعنوي والاجتماعي، مفعماً بكل التسامح والتعاون من أجل النهوض من كابوس خيّم بثقله على حياتنا جميعاً.
فالسوريون على اختلاف مشاربهم وشرائحهم يحدوهم الأمل دوماً بغدٍ أفضل.