مفهوم المؤامرة: الدلالة وسوء الاستعمال
ليس هرباً من كلمة مؤامرة ولا تكذيباً لها بوصفها حقيقة، إنما إخراج للمعنى على حقيقته التي يتكشف عنها، وقد أصبحت كلمة سيناريو يمكن أن تضمن الفهم الأكثر دقة لما يراد التعبير عنه، بالرغم من مراوغتها وعدم انضباطها أو حصرها في معنى واحد أو دلالة محددة دون سواها. إنها تحيل إلى أشكال من الفهم.
نقول عند الحديث في القضايا التي يكثر اللغط فيها دون إضافات على مضمونها أو فهمها، أي دون طائل (عمّت حتى خمّت)! وإذا كان الحديث عن المؤامرة يمكن أن يساق هكذا، فلا يجوز التعاطي معها بهذا التبسيط أو الاستخفاف، فهي فكرة تقضم أعمارنا مثلما تقضم مقدراتنا وأوطاننا، وكراماتنا أيضاً، فما تنطوي عليه من خطورة الدلالة محاه أو غطاه سوء الاستعمال وكثرته، أو إيراد الكلمة فيما يصح ولا يصح، والاستخدام المفرط والدال على عجز المستخدم لكلمة مؤامرة جعل نصيبها من المصداقية أقل مما يجب.
المؤامرة بحقيقتها ودلالتها تثير الهلع، لكن استخدامنا لها أخرجها من حالة الرعب إلى حدود القرف من استخدامها لفظاً ومفهوماً، فيما تنطبق عليه أو لا تنطبق، بل الذي جعلها أكثر رفضاً هو أنها أصبحت ذريعة للأنظمة وأصحاب المشاريع للتهرب من الاستحقاقات، ما يبين عجزهم ويغطي فشلهم، وكأن البلاد عندما تتعرض للمحن والكوارث من مثل ما نرى على امتداد الوطن العربي، فإن ذلك يخلق العذر ويعفي من المسؤولية ويقيل من تحملها، إذ يقول المسؤولون للناس: إنها مؤامرة!
هل اقتدوا بذلك الراعي الذي تدرس حكايته للأطفال؟ ومن قال للمعنيين إنهم إذا قالوا إنها مؤامرة سيكونون في حالة إعفاء وإقالة من المسؤولية؟!
لا، بل إن الواقع يجب أن يحمّلهم مسؤولية أكبر، ويعمّق الإحساس، إما بتفريطهم، أو عدم قدرتهم على تحمل المسؤولية، أو الاستهتار، أو أية حجة أخرى مشابهة، أو معنى آخر تنصرف إليه أذهان المواطنين، ولا ولن تصح الاستقالة من المسؤولية أو الإعفاء منها أمام الوطن والمواطنين.
إن استخدام كلمة سيناريو بدل المؤامرة التي أصبح الحديث عنها يثير الاشمئزاز لاستهلاك الدلالة واللفظ في المواقع الصحيحة أو الخاطئة، وفي كلتا الحالتين، نحن في كل لحظة من عمرنا أمام القصف الإعلامي بالحديث عن المؤامرات المتناسلة دون انقطاع، ودون أن تجد من يفككها ويفشلها ويمنع تنفيذها الكارثي على أمتنا، قبل أن تفعل فعلها دماً ودماراً وقضماً للأوطان والحقوق والكرامات والدور الحضاري!
عندما تكون المؤامرة مكتوبة مكشوفة معلنة التفاصيل، أي خارجة من عالم السرية الذي ينتظم المؤامرات عادة، وهي على مسمع القاصي والداني، وتكون من طرف واحد، أي ليست بين طرفين أو أكثر ضد طرف ثالث يبيت له الشر ويخطط للإضرار به، لا يكون ذلك مؤامرة. وهي من أولى علاماتها أو خصائصها أن تكون سرية، تحاك في الظلام. لذلك وجدت أنه ينطبق عليها مفهوم السيناريو، وهذا لفظ حديث، يفهم منه الجدية أو عدم الجدية حسب استخدامه، ومعناه الخطة المعدة في فهم الكثيرين. والمعروف أنه في الاستخدام الفني هو إعداد نص بالتفصيل لتمثيله فلماً سينمائياً أو مسلسلاً للتلفزيون او الإذاعة. ما يعني أنه معدّ بالتفصيل والبيان واضح أمام من سيمثله ويخرجه، ولا غموض فيه، ما يجعل جانباً من جوانب فهم المؤامرة غير متوفر لأنها يفهم منها الإعداد السري كما بيّنا.
عندما تكون المؤامرة (السيناريو) مكشوفة العناصر معلنة واضحة الأركان والأدوار موزعة على الممثلين (المنفذين) والمخرج والممول (المنتج)، كل قد اتضح دوره المعلوم، يصبح من الغريب عدم التصرف أو عدم اعتراض من تتوجه المؤامرة لتدميرهم قبل أن تنفذ وتفعل فعلها.
قلت سابقاً، إنني منذ ولدت وربما منذ ولد أبي أو جدي، ونحن نسمع، او علمنا فيما بعد أننا كنا موضوعاً وموقعاً ومشروعاً للمؤامرات علينا، وقد أصبحت جميعها مكشوفة، وإذا كانت كبرى هذه المؤامرات هي التي نذكرها كل يوم، كل لحظة، كل مناسبة، هي مؤامرة سايكس بيكو، فقد كانت سيناريو معداً من قبل القوى الاستعمارية، وهي ليست طرفين، إنها طرف واحد بإرادة واحدة. وقد أسست هذه المؤامرة لتفتيت بلادنا، وقد كشفها الاتحاد السوفيتي عقب ثورة أتوبر، وكان من ضمنها سيناريو اغتصاب فلسطين، معداً جاهزاً للإخراج والإنتاج، بمعنى آخر كانت المؤامرتان (السناريوهان) يسيران سيراً واحداً ومتكاملاً، كل منهما يخدم الآخر ويكمله، ما يعني أنهما مشروع تآمري واحد متعدد العناصر. ومن هاتين المؤامرتين بدأت تتناسل مؤامرات أخرى أو سيناريوهات نشهد كل يوم حلقة منها، وتتكشف لنا قبل أن تصبح قيد الاستثمار أو التنفيذ، وبعضها أو أغلبها يعرض علينا ونعرف تفاصيله، أو يكون تهديدات واضحة مثل تلك التي أطلقتها أمريكا ضد سورية بعد احتلال العراق، وهي جزء من السيناريو الأوسع، ما يعني أننا كنا نعرف أننا سنصل، أو قد نصل إلى ما نعانيه اليوم، وكاد التهديد ينفذ عقب اغتيال الحريري في لبنان، وهو جزء من ذلك. هنا لا أستطيع الصبر على السؤال الذي سألته كثيراً ولا أزال: ماذا فعلنا؟ ما هي خططنا؟ كيف تصرفنا؟ لمنع إخراج المسلسل التآمري وإنتاجه؟ وهل استطعنا أن نفشل مؤامرة فلا نسمح بتنفيذها أو لا نسمح بوقوعها ووقوعنا ضحية لها؟ ما الذي ينقصنا لإفشال السيناريوهات الواضحة والمعدة والمعروضة المعلنة على العالم أجمع؟
أرجو ألا يكون ردنا كذاك الذي أعلناه بعد نكسة حزيران 1967 من أن هدف المؤامرة كان إسقاط الأنظمة التقدمية وقد فشلت، فهذا كلام لا يشفي من دمرت بلاده.
لنلاحظ بشيء من التأمل أن بلادنا -كما هو معروف- أي سورية أو شرق المتوسط، أو من يراه السوريون القوميون أنه سورية الطبيعية التي يناضلون لتحقيق وحدتها، هي البقعة الأولى، وربما الوحيدة في العالم التي كانت -ويبدو أنها ستبقى- محط أنظار وأطماع كل قوة حالمة بالتمدد في العالم عبر العصور منذ القديم، وصولاً إلى يومنا، وقد كثرت المؤامرات (السيناريوهات) المعدة لذلك، ومضمونها واحد هو الهيمنة التي تتجاوز السيطرة على هذه المنطقة ومقدراتها. مع الإشارة إلى أن هذه الأطماع لم تكن دون مبرر، سواء كان المبرر هو الموقع الاستراتيجي المتحكم بمفاصل الحركة للقوى العالمية وإدارة صراعاتها حول المصالح المتراكمة في المنطقة والتي يتكشف عنها المبرر الأهم الذي يسيل له لعاب القوى العظمى: (إنه النفط أيها الغبي)!