الخطوط الحمراء المستباحة

لم نصل إلى الوضع الراهن والأزمة المستعصية المعقدة المركبة التي تحتاج إلى علاجات متكاملة لولا أن الأنظمة والقوانيين خطوط خضراء للبعض يستطيع القفز فوقها متى أراد، وأن يصنع ما يناسبه عند الطلب. فاستفحال الفساد في كل مفاصل الوطن مهّد البيئة الحاضنة لفعل أي شيء مقابل المال والغرائز، وحتى لو كانت هذه الأفعال ستودي بالوطن والمواطن، وكان أخطر ما وصل إليه الفساد هو القضاء والتعليم مع غياب فعالية رجال الدين وهشاشة جزء كبير منهم، وعدم اضطلاعم بالدور الكبير المنوط بجوهر الدين لتمتين المجتمع. ولكن رغم ذلك ظلت بعض المسائل خطوطاً حمراء يعجز أيّ كان عن تجاوزها رغم الوقاحة العلنية للبعض بفرض سياسات هدفها وغايتها ليست في مصلحة الوطن والمواطن، وثبت ذلك فيما بعد من نتائج هذه السياسات: تدمير الوطن واستباحة أمنه وتسييل دم المواطنين وتهجيرهم وإذلالهم وتشتيتهم. ورغم القذارة في الطرح المبطن بارتباطات خارجية لمشاريع غربية تناسب طموح وغرائز البعض لم يستطع هؤلاء أن (يلعبوا) بالخبز الذي ظل خطاً أحمر إلى ما قبل أيام، عندما صدر قرار رفع الخبز بعد تهيئة رقمية وتطبيل إعلامي عن مقدار الدعم الذي تقدمه الحكومة للمازوت وللطحين وللخميرة، وعن لا مبالاة البعض وإسرافهم بأكله وموضة تهريبه إلى بعض الدول، مثلما صدعت رؤوسنا سابقاً بتهريب المازوت، وأن البعض ييبّسه لتحويله علفاً للحيوانات، لأنه أرخص وأسهل في الوصول عليه، وما رافق ذلك من أن هذا الرفع البسيط لسعر الربطة بحيث تصبح الربطة بــ25ل.س بدلاً من 15 ل.س لن يؤثر على مستوى معيشة أغلب المواطنين.

يتناسى متخذ القرار ما وصلت إليه الأسعار من تضخم كبير نتيجة الظروف من ناحية، وتقاعس وزارة حماية المستهلك وضعف ما تقوم به وما قامت به في ضبط الأسعار والمحافظة على التضخم في سوية معينة توازي الظروف، وفي ظل أصبح تناول اللحمة حلماً لأغلب المواطنين، وأنه لا يبذر ولا يتلذذ ويرمي بالمهملات الفائض منها إلا مَنْ أوصلنا إلى هنا، الذين وكأن ما يجري في بلدنا لم ولن يمر من جنبهم، وان الدماء التي سالت هي واجب وفرض لحمايتهم وحماية وجودهم!

يمكن من جهة أن يكون للقرار صوابية من جهة التبريرات بالهدر وغيره، وإن كان المبلغ الذي طرح للتوفير 12.8 مليار ليرة غير مؤثر، ولا يلعب دوراً كبيراً في تخفيض العجز والتوفير للأهم، لأن أهم شيء في أي بلد ووطن هو الإنسان الذي هو غاية التنمية وأداتها، وإن كان الأصح هو النظر إلى أي قرار لا من جهة واحدة وإنما من كل الاتجاهات، والأكثر أهمية ليس قرار الرفع بحد ذاته، وإنما خلفية الرفع، التي يبدو أنها في سياق فرض البعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي دأبت على فرضها حكومة الدردري والعطري واستمرت خلال الأزمة من خلال النائب الاقتصادي الذي قام بتنفيذ قرارات عجز عنها الدردري، وأهما الرفع الكبير لسعر المازوت والبنزين. ونامت الحكومة الحالية قبل أن تودعنا بهذا القرار الذي لم يتضح معناه الحقيقي إلا بعد أن لحق بقرار آخر لوزارة التجارة الداخلية برفع سعر السكر والرز للقسائم التي كانت أساساً لدعم مصلحة الفقراء والمحتاجين، ولمساعدة المواطنين في مواجهة قسوة الحياة. وهذا القرار اللاحق للقرار الأول يدل على أن ما تقوم به حكومتنا هو تطبيق نهج لا يراعي ظروف البلد ولا ظروف المواطن، وهذا النهج يأتي إرضاء لأشخاص ومؤسسات وبلدان، وهو لب ما فرضه مؤتمر واشنطن بسحب تدخل الدولة من الحياة الاقتصادية، عن طريق سحب ما يسمى الدعم، وتحرير التجارة، ورفع الضرائب والرسوم، وقتل القطاع العام، وهذا يعني أن الأزمة لم تمر من قرب عقول كفاءاتنا الاقتصادية التي تتبوأ أعلى المناصب، وكلنا يعلم ما مورس على الليرة من ارتكابات وسياسات خاطئة ـ فندناها آنذاك ـ لتضعف الليرة ويرتفع التضخم ويصبح أغلب الشعب في منطقة الفقر، ونصفه بالقرب من خط الفقر وربعه تحت خط الفقر المدقع. وهنا لا بد من القول أنه في الظروف الاستثنائية وفي ظروف الأزمات تكون السياسات استثنائية وتأخذ أبعاداً متعددة، وليست النظرة الاقتصادية هي الغالبة، ولكن هذا لا يعني استمرار السياسات نفسها في نهاية الأزمات وفي الأوقات التي تكون بها الأزمة آيلة للنهاية، وإنما يجب أن تكون السياسات والإجراءات تواكب التضحيات التي قدمها الشعب الفقير وشرفاء البلد، وتعطي الدماء التي سالت جزءاً مما تستحقه، لا أن تجاري رؤية البعض من تجار الأزمة ممن يرون أنه لولا وجودهم لن يكون هناك حلول اقتصادية ولا يمكن إعادة البناء والإعمار، وهم أس التأزيم المستمر وعدم إعطاء العلاجات، وإن هذه القرارات هي إعطاء نتيجة الانتصار لبعض الأشخاص على حساب قوة المؤسسات التي سُلبت جزءاً من قراراتها وفعاليتها، وهذا السلب سهّل الطريق لما وصلنا إليه، ولتجاوز هؤلاء التجار اللامنتمين كلّ الخطوط الحمراء، متجاهلين دماء الشرفاء السوريين من عسكريين ومدنيين.

 إن قرار رفع سعر الخبز ليست الخطورة في اتخاذه فقط، على الرغم من أن شريحة كبيرة جداً ستتأثر به، ولكن الذي يخيف أكثر هو إعطاء البعض درع الفوز والانتصار في معركة هم من تسببوا بها، بينما دفع الشرفاء والفقراء ثمنها من دمائهم وحياتهم واستقرارهم ولقمة عيشهم التي لم يتكلموا عن قسوتها مراعاة للظروف وللوطنية التي يتحلوا بها ولم يتخلوا عنها، وإن كان هناك من يحاول تفريغهم منها.

 وأخيراً من كان يراهن على الإسقاط الاقتصادي فشل بكل مشاريعه، فعارٌ أن يعمل البعض على إضعاف مناعة الجسم الذي قاوم بقوة، ولم ولن يقاوم أي آخر مثله لما عاناه من قساوة ووحشية، وأي إسقاط اقتصادي هو إسقاط للفقراء وللشرفاء، وإسقاط لكيان الوطن ولحاضره ومستقبله، فلن نسمح لبعض الانتهازيين بتمرير غرائزهم ورؤاهم المبرمجة على حساب جسد أبدع بالمقاومة، وعلى حساب أفواه جاعت ولم تشتك ولم تصرخ لا من الجوع ولا من الألم.

العدد 1140 - 22/01/2025