من المصالحات المحلية إلى المصالحة الوطنية
يشتد الاهتمام الأهلي والمجتمعي بمسألة المصالحة الوطنية العامة في البلاد، التي كادت أن تمزقها ألاعيب المتدخلين ومؤامراتهم، ووحشية المرتزقة القادمين من أنحاء الأرض، ومعهم جزء لا يستهان به من الضائعين، والمغسولة أدمغتهم، والمخدوعين والمضللين.. ممن بهرتهم بعض العناوين البراقة لتحركات ما لبث أن اتضح عمق ارتباطها بالغرب الاستعماري وبالرجعية العربية والإقليمية، فكانت المذبحة الكبرى بحق أبناء الشعب السوري وبناته، هذه المذبحة التي بدأت منذ أربع سنوات، ولم تنته آثارها ونتائجها بعد، رغم الضعف المتزايد في قوى الإرهاب ومن وراءه.
فالصمود الهائل الذي أبداه شعبنا والجيش العربي السوري الباسل في وجه الحرب العدوانية الكبرى على سورية قد لعب دوراً كبيراً في وقف تمدّد المشروع التكفيري، ومن ورائه المشروع الإمبريالي الصهيوني، وكل الدلائل تشير إلى أن مقومات بقاء هذا المشروع ليست موجودة أصلاً، وبالتالي فإن استمرار ضربات الجيشين السوري والعراقي له سوف تتمكن من القضاء عليه تماماً. إلا أن الوصول إلى هذه النقطة مايزال يتطلب الكثير من الجهود والتضحيات، إضافة إلى أن الانقسامات المجتمعية الحادة التي شهدتها البلاد قد أفرزت عوامل تمزّق نفسية وفكرية، وطائفية وإنسانية، يحتاج التخلص منها، بعد توقف الحرب، إلى جهود ضخمة من قبل القوى الوطنية والتقدمية والعلمانية، وحشد جهود رجالات الفكر والشخصيات الثقافية والفنية والإبداعية، والفعاليات الاقتصادية والاجتماعية من أجل محو الأضرار النفسية والتشوهات في الوعي الفكري التي لحقت بأقسام هامة من المجتمع.
ومن الطبيعي، فإن ربط كل ذلك بالجانب السياسي من الموضوع الذي هو الأساس، هو ربط صحيح، لأن إزالة آثار هذه الحرب العدوانية لاتزول إلا بزوال العدوان القائم أولاً، ولكن النضالات ضد هذه التشوهات المجتمعية هي جزء لا يتجزأ أيضاً من النضال ضد العدوان ومحو آثاره، لأن أرباب المشروعين التكفيري والأمريكي- الصهيوني يستهدفون الدولة السورية، والإنسان السوري أيضاً.
إن فكرة المصالحة الوطنية قد ولدت في رحم التطورات الميدانية التي بدأت تفرز قوى من داخل المعارضة المسلحة ممن أصابها صحوة ضمير، أو أجرت قراءات جديدة للوضع الميداني والوضع السياسي، وخلصت إلى استنتاجات مفادها أن مشروعها الذي شاركت فيه هو مشروع محكوم عليه بالفشل، وأصبحت آفاق المستقبل مسدودة في وجهه، كما اتضح للكثيرين منها أن الديماغوجية والكذب والتلفيق هي المادة التي تشكل ركناً أساسياً في حربهم الدعائية ضد سورية.
كل ذلك يعني ضرورة أن تنشأ قوى من داخل المعارضة المسلحة تراجع نفسها، ويدخل القسم الأكبر منها في عملية المصالحة الوطنية ذات الطابع السياسي.
لقد نشأ، بشكل عفوي غالباً، نوع من المصالحات بين أبناء الحي الواحد والبلدة الواحدة، وهذا أمر يسهل الوصول إليه بالنظر إلى النسيج الاجتماعي الواحد الرابط بينهم، ومن الضروري بمكان أن يتطور هذا النوع من المصالحة على نحو يكتسي بالطابع السياسي بشكل مستمر. ومن الضروري إجراء الحوار السياسي مع المنخرطين فيها، لإعادة تركيب مفاهيمهم السياسية بعد التجربة المريرة التي مروا بها.
لقد بدأت عمليات المصالحة تتطور أكثر فأكثر أفقياً وشاقولياً، لتشكل الخلفية السياسية الحاضنة والمستوعبة لعملية التغير في ميزان القوى لصالح سورية، ولذلك يجب إخراجها من أجواء التناقض في أساليب العمل بين مكان وآخر، وإن كان لكل وحدة اجتماعية أو إدارية ظروفها الخاصة، فلا يجوز أن يحصل أي تضارب جدّي بين الأشكال والأطر المتعددة التي تنشط ضمنها عمليات المصالحة، ويجب أن تتوحد المرجعيات التي تنظم عملها، لكي تبتعد عن الارتجال والعفوية والتضارب وحسابات المصالح الشخصية أو الفئوية، ولتصبح إطاراً عملياً وعنصراً أساسياً في تنظيم الحركة الشعبية السورية المناهضة للغزو التكفيري والاستعماري، وقد يكون مناسباً في هذا الإطار تشكيل هيئة علياً للمصالحة الوطنية عوضاً عن تشتت المرجعيات.