مربعات لإيواء الكلمات
الكلمة الأولى..
تجرّأ صديقي ولمس شعرها في مناطق هبوب العواطف.. قفزت إليه ابتسامتان مكلفتان بمهمة استقبال الزوَّار.. كانتا تقفان دائماً باستعداد على حافتي فمها، مثل مرآتين تطلقان الصرخات من تحت بلورهما، تعكسان حركات قلبها.. وتسجلان حكايات الحب!
تربَّعت الابتسامة الأولى وهي بكر أبيها وأمّها، على كوز خدّه الأيمن. وجلست الابتسامة الثانية حزينة، وهي بكر الزوجة الثانية، لأب أصابه قنَّاص في رأسه. وتحت بؤبؤ عينه اليسرى أخرج صديقي لسانه، الذي سرعان ما تحوَّل إلى وتر بدأ يعزف على شفتين حريريتين أغنية الرحيل، فطرب قلبها وتهاطل مطر الفرح.
وكانت المفاجأة الغرائبية أن الابتسامتين تحوَّلتا إلى شمعتين أشعلتا النار فيهما حتى درجة التفحّم!
لم تيأس الحبيبة من هذا الجنون وهذه التحولات المصيرية في طفولة الحب. تجرَّأت وثقبت بدبوس مجرى الدموع وفتحت ساقيتين فاضتا بالدموع، فأطفأتا الحرائق وروتا الابتسامتين.. عندئذ نمت البراعم وأزهرت أغصان الحب وزالت غمامة اليأس.. وتبدّد خوف الحبيبة.وعادت كل ابتسامة إلى مكانها.. ثم قطعتا اللسان… وعبق الفضاء برائحة الشواء.. وبدأتا ترقصان حول المائدة وتشربان نخب الولادة من جديد..!
الكلمة الثانية..
منذ عام مضى أصيبت دموعي بفيض الوداد.. نسيت وجه حبيبتي بسبب الأزمة التسونامية، التي قطعته ووزعت نتفه إلى مأوى للمهجَّرين والنازحين، فأغمضوا عيونهم حينما رأوا جلده المسلوخ وأذنيه المهشَّمتين، وعينيه اللتين خرجتا من تجويفين كمغارتين موحشتين.
مدَّت الأزمة أصابعها العشرة من مسامات رأسي، واقتلعت باب ذاكرتي الحديدي بطلقات مسدس، ومزّقت صورتها كي تمسح أثرها وتجتثّ جذورها!
تألّمت كثيراً وأنا أنظر بخوف وقلق إلى جثمانها المحمول على أكفّ شخوص قصصي وحكاياتي.. وهم يخرجون من بوَّابة فؤادي ويسلكون طريق الأبهر إلى المقبرة.
وعلى الرغم من الألم المعشش في قلبي، الذي شكل طبقات من الحزن منذ عقود، أرغمت نفسي على المشاركة في الجنازة إلى مقبرة العشيقات، ثمَّ ألقيت عليها حفنة من تراب الحب..!
الكلمة الثالثة..
انتحرت الكلمة الثالثة خوفاً أن تطحنها أسناني.. سالت دماء حروفها من فمي، وبقيت بعض الفواصل والنقاط وحروف غريبة غير مفهومة، عالقة بين متعارضتين تحاول بذل أقصى جهد لترتيبها من جديد، وإعادة الروح إليها لكن دون جدوى أو فائدة!
علَّقت الكلمة الحرف الأول في مشنقة مثبَّتة في حنجرتي فحبست أنفاسي، وقفزت عيناي من محجريهما مثل قنبلتين هجوميتين.. ولا يوجد من يسمع صوتي المخنوق في ليلة رفعت سيف حقدها في وجهي.. وآخر من رأيته كان ظلّ تمثال مقطوع الرأس، أفقدني بصري وبعضاً من بصيرتي..
شبح يرتدي أسمالاً.. يزفر زفيراً وحشياً.. استطاع أن يجمع عشرات الحناجر ، ويصنع منها سبحة للصلاة، وأن يستعيد ذاكرات أصحابها وسير حياتهم ويقوم بمحاكمتهم.. ظلّ يتلذذ بسلخ جلودهم ويرشّ الملح على أجسادهم المدمّاة..!
في تلك الليلة التي لا تزال تتكرر، دوَّت صرخاتي وتأوهاتي وتكبيراتهم.. كنت أرى بنصف عين بعد أن فقدت عيناً ونصف.. وكانت ستائر نوافذ الجيران ترفعها أنامل مرتجفة.. وظهرت عيونهم تومض بالخوف.. لكنهم سرعان ما يطفئون أنوار البيوت.. ويعودون إلى أسرّتهم بصمت..!