زوايا النور

سيكون لنا في الآتي من الأيام وقفة تأمّل، نستعرض فيها هذه العلاقة التي تربطنا الآن معكِ أيتها البلاد الشقيّة، وسيكون لنا تقويمنا الخاص لصدقنا، ولسحر الانتماء إليكِ. هل نستحقّ هذا الانتماء؟ وهل يليق بنا أن نكون، كما نحن الآن، مواطنين نيّئين؟

على الرغم مما حدث وما سيحدث فإن كثيراً من السوريين لا يليقون بسورية، هي أكبر بكثير مما يتوهمون. مثلهم كمثل تلاميذ مراهقين وكسالى عشقوا معلمتهم الجميلة والأنيقة، وهي دائماً تبتسم لهم، وتعلّمهم، لكنهم لا يتعلّمون، وحين يرسبون في النهاية تحزن المعلّمة لأجلهم، بينما هم يتابعون فوضاهم وكسلهم وتلوّث أيديهم ووجوههم.

ماذا سنحكي لأحفادنا؟ أحفادنا الذين مات آباؤهم، سيكبرون ناقصين، كيف نعوّض ذاك النقص؟ كيف نرمم ما تهدّم من جدران ذواكرهم؟ كيف نثبت أمامهم أن بلدهم هي الأجمل فوق هذه الأرض؟ كيف نقنعهم أن في هذه العتمة الطاغية زوايا نور تنتظرهم؟

نحن الأجمل. قناعة لا تفارقنا، نحن الأقدم والأجمل والأرقى، وهذا العالم المستشرس علينا على يقين من ذلك، ولأنه على يقين يزداد شراسة، ولأننا الأجمل نزداد صموداً. قد يتساءلون:وماذا بعد هذا الصمود كله؟ نقول لهم: اقرؤوا أسرار القلاع، فالقلعة لم تصبح قلعة إلاّ بصمودها، والحقول وراءها لم تكتنز هذا الاخضرار إلاّ بذلك الصمود. أجل… بسبب الصمود بقيت القلاع قلاعاً والحقول حقولاً. هكذا نقول وسنقول لأحفادنا القادمين.

في البيوت القديمة ترك أجدادنا نوافذ صغير من جهة الشرق، يصل من خلالها إلينا ضوء القمر ووهج الشمس، وهكذا تعلّمنا من خلال تلك النوافذ كيف نفرّق بين الضوء والوهج، وتعلمنا أيضاً المقدرة على تصدير الضوء واستثمار الوهج، وبلادنا مثلنا، تعلّمت أيضاً كيف تضيء، وكيف تحرق، هي السماء تسرّبت إلى جيناتنا، فأصبحنا أبناءها.

ما من طفل في هذه البلاد إلاّ ويحمل شمساً بين عينيه، وقمرين على كتفيه، في دفاتره سماء كاملة، يكتب بها وعليها ما يشاء من أساطير ووظائف. وما من أبٍ إلاّ ويراقب شموس أبنائه وأقمارهم، فلا عجب إن حملت هذه الأرض كلها يوماً ما بعض صفات هذه البلاد، ولا عجب حين يصير الناس جميعاً يتشبّهون بنا، نحن السوريين.

قديماً سكنت أقوام هذا الشريط الساحلي، من رفح حتى إسكندرون، فأقاموا حضارة ما زالت آثارها باقية حتى الآن. أولئك هم أجدادنا الأقدمون، علموا البشرية كلها كيف تقرأ، اسألوا (أوغاريت) وأبجديتها تدلّكم من نحن، ومن هم أجدادنا، ومن سيكون أحفادنا.

لو تعلمون أيها الوافدون على حدّ السواطير ما تكون هذه البلاد لرفعتم أياديكم عنها، ولركعتم ألف ركعة قبل أن تدخلوها، هذه أرض الله، ابنته وأمه، منها أخرج أنبياءه، وإليها سيعودون، سيقومون. فيا أيها الملوّثون بدماء أمهاتكم عودوا من حيث جئتم، ومارسوا طقوسكم هناك، بعيداً عن أمنا وطهرها وقداستها.

زوايا النور، ومساكب الضوء تلعنكم، الخضرة والقلاع، نظرات الأطفال الحزينة، دفاترهم وحقائبهم تلعنكم، الأرصفة وقد تغيّرت ألوانها حملت صوركم السوداء، نوافذ البيوت القديمة أغلقت على غباركم، تتأهب لرسم الصفاء والنقاء، تتأهب لمسح سمائنا من آثاركم.

أيها الوافدون المتوحشون، سنحكي لأحفادنا حكايا الجدّات عن الأشرار والطيبين، عن الصعاليك وعن الملوك، عن حسناوات البلاد الطيبة، وعن وحوش الغابات، سنحكي لهم كل شيء، أجل… كل شيء.

العدد 1140 - 22/01/2025