الراعي والوزير

ما أكثر الحفر التي يقع فيها الإنسان أثناء مسيرته المؤلمة فوق هذه الأرض، حفر كثيرة، كبيرة وعميقة، شائكة ومربكة، لكن أغرب وأعمق حفرة يمكن أن يسقط فيها بني آدم ويصعب خروجه من بطنها، هذه الحفرة التي سأخبركم عنها.

يحكى أن ملكاً كان  يجمع في قصره كبار المفكرين والفلاسفة في زمنه، يتناقش معهم في أمور الدنيا والدين، والحياة والموت، والسعادة والألم، والخلود والفناء، وكان أحد المقربين للملك أفهمهم وأكثرهم علماً ومعرفة، وزيره الأمين.

وحدث أن جاء في يوم من الأيام أحد الرعاة، وطلب مقابلة جلالة الملك، وعندما دخل الراعي على الملك، قال جلالته: ما يجعلني أقابلك، علمي وتواضعي وحبي للمعرفة، وليس قوتي وسلطاني.

فابتسم الراعي وهز رأسه.

قال الملك: سمعت أن لديك سؤالاً تريد معرفة إجابته؟

قال الراعي: أجل. أريد أن أعرف ما هي الحفرة التي يقع فيها الإنسان ولا يمكنه الخروج منها أبداً؟

فكر الملك قليلاً، ثم قايل: لن أجيبك إجابة سطحية، لذلك عُدْ بعد أسبوع لتأخذ الجواب.

قال الراعي: بل بعد شهر.

ابتسم الملك وقال: لا شك أنك تعرف الإجابة، قل ما هو الهدف من سؤالك هذا؟

قال الراعي: أريد يا جلالة الملك أن أتأكد من شيء واحد وهو: إن فوق كل عالم عليم، وفوق كل عارف إنسان أعرف وأحكم، وطالما أن هناك على هذه الأرض تنجب وتلد، عار على الإنسان أن يقول أنا.

هز الملك رأسه وأمر بإكرام هذا الراعي الحكيم، ووعده أن يعثر على جواب لسؤاله بعد شهر.

(بذل كل عالم ومفكر وفيلسوف جهده لإعطاء أفضل إجابة، ولكن أياً من الإجابات لم تكن جيدة أو مقنعة، فطلب الملك من ذاك الوزير المقرب له، العارف والنابه، أن يحضر الإجابة بأسرع وقت وإلا سوف يستغني الملك عنه وعن عمله وعلمه، وبحالة من الحزن والبؤس شرع ذاك الوزير يذهب في كل صباح إلى الغابة حاملاً معه الكتب لعله يحصل على الإجابة، أو لعل الغابة تسعفه، فقد اعتاد هذا الوزير الذهاب إلى الغابات ليتأمل الكون والطبيعة.

وذات صباح التقى الوزير بذاك الراعي ذاته فدهش، وفرح، وضمّ الراعي إليه بقوة وطلب منه أن يعطيه جواباً لسؤاله عن تلك الحفرة، وبالمقابل سيلبي له الوزير أي طلب يطلبه.

ابتسم الراعي وقال: (ربما يمكنني أن أساعدك، فأنا أملك حجراً في جيبي يدعى  حجر الفلسفة، وهو حجر سحري يحوّل الحديد العادي إلى ذهب، لو كنت تملك هذا الحجر فلست بحاجة لأن تعمل عند أي شخص، حتى الملك، لأنك ستكون غنياً وبإمكانك أن تحول كل الحديد في العالم إلى ذهب، أنا سأعطيك هذا الحجر، ولكن إذا كنت ترغب بذلك فعليك أن تفعل كل ما أطلبه منك).

تحمس الوزير للفكرة وأكد للراعي البسيط أنه سيفعل كل ما يطلبه منه

قال الراعي: (حسناً، عليك أن تصبح تلميذي، واتخذني فقط كمعلم لك).

فكر الوزير قليلاً بينه وبين نفسه: كلا بالطبع، لا أستطيع أن أتخذ هذا الراعي البسيط معلماً لي، فهو مجرد راعٍ، وأنا عالم ووزير، لكن فجأة تذكر الحجر السحري وبسرعة بدّل رأيه. فقال: حسناً سأفعل ما تريد، سوف أتخذك معلماً لي.

(قال الراعي: أنا آسف، لأنك اخذت وقتاً طويلاً حتى تقرر. لديك الآن فقط طريقة أخرى لتحصل على الحجر، وذلك إذا شربت من حليب الأغنام في القصعة نفسها التي يشرب منها كلبي الأمين).

فكر الوزير: (اشرب من صحن الكلب القذر؟! إن هذا كثير جداً). لكن فجأة تذكّر الحجر المدهش الذي سيصبح من خلاله غنياً، فاستسلم قائلاً: حسناً. موافق.

قال الراعي: (لا. أنت ما تزال بطيئاً جداً في إعطائي الجواب، ولكن بدون شك، الحجر السحري سوف يصبح قريباً ملكاً لك إذا فعلت ما سأطلبه منك:

أن تشرب مع كلبي الحليب الممزوج بالأوساخ؟

(في هذه المرة لم يضيع الوزير ثانية واحدة في التفكير، فصاح: نعم.. نعم، سوف أفعل ذلك).

ذهب الراعي ليمزج الحليب بالأوساخ، ونادى على كلبه، وفي اللحظة التي أحنى الوزير رأسه ليشرب الحليب القذر مع الكلب صاح الراعي:

(يا أخي.. انظر إلى ما ستفعله؟ كل ذلك ستفعله من أجل حصولك على الحجر السحري الذي سيجعلك غنياً بتحويل الحديد إلى ذهب).

يا عزيزي: (لقد تخليت عن كل علمك وفكرك ومركزك وإنسانيتك في سبيل الحصول على الذهب. هذه الرغبة لديك، هي الحفرة التي لا قرار لها.. هي الحفرة التي يقع فيها الإنسان ولا يمكمنه النهوض للخروج منها أبداً).

وما أكثر الذين يرغبون الوقوع في تلك الحفرة متمنين ألا يخرجوا منها، حتى ولو كلفهم ذلك كل ما حصّلوه من علم، وكل ما جمعوه من شرف وكرامة!

العدد 1140 - 22/01/2025