ماسحو الأحذية!
ذات حنين..
عادت بي الذاكرة إلى فيلم حضرته، وأنا في مقتبل العمر، كان اسمه (ماسح الأحذية)، وعلى عادة الأفلام الهندية دائماً هناك دموع، ولا أدري حينذاك حقيقة تلك الدموع التي هربت من عيني وأنا أشاهد الفيلم وأتابعه بسائر حواسي، منتبهاً، فلا شرود في فيلم يستغرقك بجزئياته وتفاصيله وضراوته الدرامية. لماذا أفسر الآن حقيقة تلك الدموع؟ أهو التعاطف مع ذاك الطفل -ماسح الأحذية- أم براعة الموسيقى التصويرية التي تخلب اللب، وهي تنقر على الأعصاب وتتسلل في حنايا الوجد، وأذكر أنني رمقت من كانوا على جانبيّ فقد كانوا في لحظة بكاء خفية أيضاً، ربما لتلك الأسباب أو غيرها، لكنّ الأساسي هنا أننا عاطفيون بما يكفي أن تنبجس دمعة من عيوننا إذا زلت قدم نحلة عن زهرة مشتهاة.
ماسحو الأحذية اليوم المعذبون في الأرض، هم أصحاب النداء ذي الرجع الرخيم (بويا بويا والرزق على الله)! فقليل من المال وتدب الأناقة في الحذاء، وهكذا يمضون سحابة نهارهم في استجداء أصحاب الأحذية، تلميعاً وتنظيفاً وربما صيانة شاملة، ولا عيب في مهنة شريفة بدل أن يتسول المرء، لطالما قال الروائي همنغواي: العيب أن لا يعمل المرء، ومن يشرّف المهنة هو الإنسان، وتراني أجوب وجوههم وأُصغي لنداءاتهم في زمن مضى يحملون (عدة الشغل) ويفترشون الزوايا علّ أحدهم يمر ليحظى بالنصيب.
ربما تلك الصورة التقليدية التي اعتدناها عن ماسحي الأحذية، ظلت ردحاً من الوقت في الأذهان، لكن في خلفية المشهد اليومي ثمة من يمسح غير حذاء ويبالغ في تلميعه شأن نصوص باهتة لا تصلحها مهما استطاعت أيدي الماسح لكنها تزيدها وهماً على وهم، كمن يغربل ماء البحر، أو تتراءى له الغيوم ألبسة ممزقة فيسعى لأن يخيطها، فلا يكاد يمسك منها شيئاً لأنها ماتنفك تبرح أمكنتها الظاهرة لتدور إلى غير مكان، ولعل بعضها من يختزن المطر وأكثرها محض غيوم عابرة أو سحابة صيف عابرة كذلك.
أصبح مسح الحذاء تقليداً غريباً يذكرنا بما يشابهه في موروثنا الشفوي: (ماسحي الجوخ) وما أكثرهم من تجاوزوا أولئك البؤساء في الحرص أكثر على تلميع مالا يُلمّع. هل تعود بنا الذاكرة هنا إلى تلك القصة الجميلة الموحية (ثياب الإمبراطور الجديدة) حينما أوحى النساجان المزيفان بأنهما قد خاطا ثوباً جميلاً للإمبراطور وأقنعاه بأن يلبسه ويجوب به الشوارع، لكن طفلاً ما صرخ: أيها الإمبراطور أنت عار تماماً!.
كم أنتم أغنياء يا من تمسحون مجرد حذاء! أغنياء دون سواكم حتى لو قلت القروش وعبرت الناس سريعاً دون أن تنتبه، ودون أن يعنيها مجرد تلميع حذاء، شبهة ترف عابر، سيظل الصوت ولو بعد حين: (بويا بويا) يتردد في الأرجاء، ومعه تتردد أصوات لا تستجدي أحداً بقدر ما تبث نداء لقمة العيش المغمسة بالدم، فيما يمضي ماسحو كل شيء في الطريق ذاته، كثيرون من يعرفونهم وينأون بأحذيتهم عنهم، فقليل من الغبار على الحذاء أجمل من أن تلوثه أصابع مزيفة لا شأن لها سوى الوهم أولاً والوهم ثانياً.
ليست تلك السياقات مقاطع منتقاة من روايات الطريق، وأقاصيصه المنتخبة، لكنها المنتخبة من دراما الحياة ذاتها، التي تشي بالكثير من المألوف واللا مألوف، وسخرية الأقدار التي تحمل على (تبئير) الحكاية الأساسية ولو فرت هوامشها الكثيفة إلى ما يستدعيه السياق، بدءاً من بساطتها وليس انتهاءً باحتدام يحكم منطق تلك الحكايات.
لا عزاء لمن لا يحمل حذاء ولا يذهب به إلى ماسح مسكين، ولا عزاء (لماسح) يرى الحذاء فقط ولا يرى من يحتذيه، لطالما كان الاحتذاء ثقافة وفكراً هو الأخطر وفي مكمنه سخرية طليقة تشي أكثر مما تقول وتحيل أكثر مما تصرح به، لتختلط في الفضاء أصواتهم جميعاً، علّ السماء وحدها من تدرك أعلى الأصوات، فتبث على المعذبين في الأرض غيثها ولو بعد حين.