في سورية.. سوق للبطالة وليست للعمل!

لم ينجح أي مشروع في سورية لمعالجة مشكلة البطالة، ولم تنفع كل الخطط والبرامج، في الحد من التزايد المضطرد لأعداد العاطلين عن العمل، جاءت الأزمة الراهنة لتزيد طين هذه المشكلة بلة، دافعة بعدد جديد من العمال إلى سوق البطالة المتنامي والمتضخم. في سورية ثمة سوق للبطالة، وليست سوقاً للعمل، هي مُصدِّرة للعمالة، ومزوّدة لأسواق العمل بما تحتاجه، وتنفق المليارات على التأهيل والتعليم دون أن تستفيد من الكوادر أو قوة العمل التي تمتلكها. هذه سمات  أنهكت الاقتصاد الوطني، وجعلته حاضنةً لكل أمراض الإدارة، من تعطل وضعف في إنتاجية العامل وفساد وروتين إداري.. إلخ. إذ تحول الاهتمام من إيجاد حلول للبطالة المرتفعة، إلى التركيز على وضع معالجات جذرية لحالة الترهل في الأداء العام للعاملين. وليس غريباً، أن نسمع من مديرين ومسؤولين كلاماً حول مشاريع لديهم للتخلص من فائض العمالة، دون أن نسمع منهم شيئاً عن العقود التي يوقعونها مع عاملين جدد، لمدد مختلفة، ثلاثة أشهر أو تشغيل الشباب. هذا أحد أسباب الفشل الحكومي في كسر حاجز البطالة القوي والمتضخم، فكل ما قدمته الحكومات المتعاقبة أشبه بذر الرماد في العيون، ومقاربة المسألة من بعيد، لعجز واضح في الرؤى التنموية، وغياب الخطط التشغيلية الحقيقية، التي تتجاوز مسألة التوظيف في القطاع العام.

تجاهلت الحكومات المتعاقبة قضية التشغيل، رمتها خلف ظهرها، ولم تضع خططاً لمعالجتها، وتركَتْها تتغلغل بالاقتصاد حتى أنهكته. الاستثناء الوحيد الذي يسجل لتلك الحكومات، كان مشروع الراحل عصام الزعيم ـ أخر وزير للتخطيط في سورية ـ بتأسيس الهيئة العامة للتشغيل وتنمية المشروعات (هيئة مكافحة البطالة سابقاً). إلا أن القوى غير الراغبة في معالجة الملف، أصرت بكل ما تملك من تأثير لحرف المسار المخطط للمشروع، وتفريغه من مضمونه، ووضع عشرات العقبات أمام العاطلين عن العمل، ما أدى إلى حرمانهم من الحصول على القرض المخصص لهم آنذاك. فضلاً عن الإساءة التي لحقت بالمشروع، لجهة حصول الكثير من غير الذين تنطبق عليهم الشروط على قرض، أنفقوه لغير الغاية المخصصة له، فبدلاً من أن يكون القرض فرصة للعاطل عن العمل، بات مشكلة بحد ذاته، فطالب كثيرون منهم بإعفائهم من السداد، أو تأجيله. أما فرص العمل التي تقرها الحكومة في موازنتها العامة لكل سنة مالية، فلا تطبقها، ولا تنفذ منها إلا الحد الأدنى، فتبقى فرص عمل على الورق، بدليل أن العام الجاري لم تنفذ الحكومة ما أقرته، ولم تسمح بالاستمرار في برنامج تشغيل الشباب الذي يلزم الحكومة بتشغيل 10 ألاف من خريجي الجامعات سنوياً. وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس للعام القادم، الذي تتضمن موازنته العامة أكثر من 94 ألف فرصة عمل، حتماً سنتساءل عن أسباب عدم تنفيذها في الوقت المناسب، بالاستناد إلى التاريخ غير السار للحكومات المتعاقبة في التعامل مع فرص العمل التي تقرها في موازناتها.

 البطالة في سورية قضية أعمق من اقتصادية، هي قضية مركبة، يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، وتحكمها ردّات الفعل. لكن البعض حاول النظر إلى التوظيف الاجتماعي على أنه مشكلة، في غياب الإدارة الحقيقية للموارد البشرية، للتخلص من عبء ماثل أمام الحكومة. ويبدو التخبط الحكومي في مسألة التشغيل والتوظيف مثيراً للسخرية، إذ إن الحكومة لم تحدد من تريد أن توظف، وتبدي عجزاً في معالجة ملف البطالة، وبالوقت عينه، توحي للناس برغبتها العارمة في تأمين فرص العمل. وكان برنامج تشغيل الشباب الذي بدأت بتنفيذه منذ ثلاثة أعوام، فكرة جيدة نظرياً، طبقت لعامين، وانتهى الموضوع، رغم أن البرنامج مدته خمس سنوات. اللافت بالأمر أن الحكومة التي تحاول ترسيخ قوتها غير الحقيقية، رفضت عام 2014 تطبيق هذا البرنامج، وحاولت بشكل أو بآخر أن ترمي الكرة إلى الملعب الآخر، معتبرة أن تشغيل الشباب يرتبط بتشغيل ذوي الشهداء فقط، حتى أنها وصلت إلى قناعة أن التوظيف لايشمل إلا ذوي الشهداء. ليتبين فيما بعد زيف وبطلان هذا التوجه، وأنه أتى بإرادة حكومية صرفة.

بات بحكم المؤكد أن الحكومة لن تستطيع معالجة ملف التشغيل، ولن تتمكن في الفترة الراهنة المعقدة سياسياً واقتصادياً، من وضع حلول لمشكلة عمرها عقود. نسبة البطالة الآن، وفقاً للتقديرات غير الرسمية تتجاوز 50%، وهناك من يرى أنها 70% من القوة العاملة، مقابل نحو مليوني عامل فقدوا فرص عملهم، بمعنى أن قضية البطالة باتت متجذرة، ولم تعد المشكلة بمن هم خارج نطاق التأمينات الاجتماعية، بل في هذه الأعداد الهائلة من العاطلين عن العمل الذين فقدوا مصدر رزقهم. وهو ما لا طاقة لحكومة أن تعالجه، إلا باتباع سياسات تنموية قادرة على استيعاب هذه الطاقات البشرية المهدورة.

العدد 1140 - 22/01/2025