الخبز.. بعد تجاوز الخطوط الحمر

شهران فقط يفصلاننا عن اليوم الذي تجاوزت فيه الحكومة أبرز الخطوط الحمر، حين رفعت سعر الخبز، وكان ذلك واحداً من عدة قرارات صادمة، فاجأت بها الحكومة دفعة واحدة، السوريين الذين يرزحون تحت وطأة الأزمة/ الكارثة منذ سنوات ويعانون تبعاتها. الأنكى والأكثر إثارة للأسى والغضب أن وزير التجارة الداخلية أعلن آنذاك أن الحكومة اتخذت قراراتها تلك (استجابة لمطالب المواطنين)!

اليوم نعرض قضية تتعلق بالخبز، وتتلخص بتراجع جودته، ما قد يجده البعض صادماً، ويراه غيرهم غير معقول ومأسوياً، وربما يقول آخرون: هذا (طبيعي) و(منطقي) في سياق تسلسل الأحداث والوقائع، فهذا القمح سيعطيك هذا الطحين!

الفرن الآلي بجرمانا..

مع بداية الأسبوع الثالث من آذار، ولا نظن أن في التوقيت ترتيباً مسبقاً مقصوداً، فوجئ من يشترون خبزهم من الفرن الآلي بجرمانا، بأن الرغيف متجهّم، وملمسه خشن، ومنظره (يصدّ النفس).. وحين استفسروا كان الجواب: هذا هو الخبز المتوفر، وقد جاء على هذا النحو تبعاً للطحين الذي وصلنا. وأُسقط في أيدي المواطنين وتساءل كل منهم في نفسه: هل يعود إلى البيت دون أن يشتري الخبز؟ أم يقبل به كيفما كان، ثم يبحث عن حل؟ أم يشتري فوق هذا الخبز ربطة خبز سياحي أو مدعوم؟ في كل الحالات وجد المواطن نفسه مجبراً على خيارات، كل منها يستلزم إنفاقاً غير محسوب، وهو الذي يحسب ما ينفقه قرشاً قرشاً حتى يستطيع أن يواصل أيامه، إلى أن يقبض راتبه أو أجره.

آراء المواطنين

(النور) سألت بعض المواطنين، وكان بعضهم يقف في الدور أمام صالة البيع في الفرن الآلي بجرمانا.

– (أم أحمد) قالت: يا أخي لا نستطيع أن تشتري خبزاً إلا من هذا الفرن، وقد لاحظت أمس أنه سريع التفتت، وأجد صعوبة في لف لفافات لأولادي في المدرسة من هذا الخبز.

– (إيّاد) قال: يا أخي أرى أن هذا الخبز صحي أكثر ويحسّن الهضم.

– (عطا الله): إذا كان لديهم سوء في التصنيع، فالتموين أخذ عينات، وسيحاسبهم!

– (أبو رافي): إذا أردت خبزاً أبيض، فاذهب واشترِ من فرن باب توما، فهو يتبع لجنة الأفران الاحتياطية، وخبزه يبقى صالحاً أكثر من أسبوع إذا وضعته- بعد تفتيحه- في (الفريزة.

استمر هذا الوضع عدة أيام، وتفاقمت الشكاوى.. جاءت دوريات التموين مرتين، في يومين مختلفين إلى الفرن الآلي في جرمانا، وأخذت عيّنات من الطحين ومن الخبز، وتدخلت جهات عديدة وسألت وعرفت السبب، فأوعزت إلى شركة المطاحن بإرسال نوعية أفضل من الطحين.

صباح الأربعاء 18/3 لاحظ المواطنون أن نوعية الخبز تحسنت.

مدير الفرن الآلي: هذا الطحين يعطي هذا الخبز!

توجهت (النور) يوم الأربعاء الماضي إلى السيد محمود حورية، مدير الفرن الآلي في جرمانا، وسألته عما جرى؟ فقال: قبل أن أجيبكم، تعالوا معي لتروا الطحين الذي وصلني.. ذهبنا  معه إلى مكتبه، ولاحظنا أنه يضع على الطربيزة أمام طاولته عينات من الطحين في أكياس نايلون شفافة، يظهر لكل من يمسكها أو ينظر إليها أن فيها نسبة عالية من النخالة.. ولونها مائل إلى السمرة، قال: وصلنا من شركة المطاحن نحو 100 طن من هذه النوعية (السيئة)، واضطررنا لعجن قسم كبير منها وخَبزه في الأيام الماضية، اليوم بقي لدينا منها نحو 6 أطنان، ومنذ يوم أمس- الثلاثاء- وصلنا طحين جيد، بعد أن علم السيد محافظ ريف دمشق وتدخل مع شركة المطاحن، فأرسلوا لنا طحيناً من نوعية أفضل، وبدأنا نخلط هذا بذاك، وأنتجنا الخبز الذي رأيته اليوم في صالة البيع.

فعلاً كان الخبز الذي يباع يوم الأربعاء الماضي (18/3) وفي الأيام التالية أفضل، ولونه أقل سمرة ودرجة طراوته أفضل.

معاون المدير: ماذا نفعل؟

كنا قبل ذلك قد التقينا السيد محمد المصري، معاون مدير الفرن، وهو خريج معهد صناعات غذائية، وقد كان صريحاً جداً، إذ قال وملامح وجهه تدل على الامتعاض: نحن لا نرضى بهذا الخبز لبيوتنا، ولكن قل لي ماذا نستطيع أن نفعل إذا كان الطحين الذي وصلنا بهذه المواصفات؟

* وما الجديد في هذا الطحين؟

** كانت نسبة الاستخراج في الحالة العادية 80%،وكان ذلك يعطينا خبزاً جيداً، الآن يبدو أن هناك توجيهاً برفع نسبة الاستخراج، وهذا يعني زيادة نسبة النخالة في الطحين.

* هل للخميرة علاقة بالأمر؟

** لا.. لا.. السيئ فقط هو نوعية الطحين.

* وماذا عن (التموين)؟ قيل لي إنه حضر إلى الفرن، فهل جاءت دورياته بناء على طلبكم، أم على أساس شكاوى المواطنين؟

** جاء التموين على أساس شكاوى المواطنين، وأخذ عينات من الطحين ومن الخبز، وقد وعدونا بمتابعة الأمر مع شركة المطاحن.

مال: هذا الطحين وصل إلى كل مخابزنا!

بالمصادفة كان السيد محمد هاني مال، مدير فرع ريف دمشق في الشركة العامة للمخابز، موجوداً في فرن جرمانا، فسألناه:

* هذا الوضع في فرن جرمانا الآلي وحده، أم في كل أفران ريف دمشق؟

** في كل الأفران الآلية، لا في ريف دمشق وحده، بل ربما في كل سورية؟

* ولماذا؟

** مثلما قال لك المدير، السبب هو الطحين ونسبة الاستخراج العالية، الآن تتجه الوزارة –  حسبما علمت، يتابع السيد محمد مال- إلى خفض نسبة الاستخراج، وربما تعود إلى ما كانت عليه فيما مضى.

سألته: هل يستطيع مدير الفرن أن يرفض استلام الطحين مثلاً، إذا لاحظ أنه غير مناسب؟

فقال المدير: يمكن أن أرفض الاستلام، فقط إذا وجدت (إصابة) في الطحين!

* وماذا تقصد بـ(إصابة)؟

** أقصد إذا كان السوس فيه واضحاً، أو ما شابه!

* وهل لديكم مخبر لتحليل الطحين؟!

** رد السيد محمد هاني مال: المخبر الذي يحلل الطحين موجود فقط في شركة المطاحن. وإذا شك المدير في الطحين الذي يأتيه، فعليه أن يطلب حضور (التموين) ليأخذوا عينة ويحللوها في المخبر المركزي.

* ومتى تظهر نتيجة تحليل كهذا إذا حصل؟

** تحتاج إلى يومين.

علمنا من المدير أن في المخبز كميات من الطحين (احتياط) تكفيه أسبوعين على الأقل، وبالتالي إذا لزم الأمر يمكن للمدير أن يوقف استلام الكمية.

وكان صادماً لنا أن 50-60% من العمال في المخابز الآلية هم مياومون.

المطاحن.. هل تميز بين العام والخاص؟!

علمنا من خلال لقاءاتنا واستفساراتنا أن توزيع الطحين من المستودع المركزي للمطاحن، لا يتسم بالعدالة، فالطحين الذي تنتجه بعض المطاحن- إن كانت نوعيته جيدة، يعطى للأفران الاحتياطية أو الخاصة، أما إذا كانت النوعية أقل جودة، فإنه يعطى للمخابز الآلية.

لم نتمكن في هذه الفترة من التواصل مع شركة المطاحن ولا نريد أن نوجه اتهامات، وكذلك لا نريد أن ننفيها، وسنبقي الأمر معلقاً، حتى نسمع مباشرة رأي شركة المطاحن. ولدينا أسئلة تتعلق مثلاً ببطاقة البيان، ونسبة الرطوبة، والأهم نسبة الاستخراج.

نسبة الاستخراج.. مربط الفرس

مصطلح (نسبة الاستخراج) هو الأساس في تحديد نوعية الطحين، لأنه يحدد مكوناته أو يحدد نسبة الطحين المستخرج من القمح. وكما ذكرنا سابقاً، فقد كانت النسبة المعتمدة هي 80%، وأن توجيهات صدرت- على الأرجح من رئاسة مجلس الوزراء، بأن تصل النسبة إلى 95%، وهذا ما أوصل إلى الأفران طحيناً، أعطى – بعد عجنه وخبزه- خبزاً متجهماً لم نعتد عليه.

ورغم أن الأمر قد لا يكون مسيئاً من الناحية الصحية، فإن السؤال الذي ينتظر الإجابة: لماذا لا تكون حكومتنا شفافة مع الشعب، حين تتعاطى مع المادة الأكثر استهلاكاً وأهمية وضرورة لمعيشة هذا الشعب وصموده؟

ألا يستحق الأمر أن تتعاون شركة المطاحن وشركة المخابز للوصول إلى الخلطة المناسبة حتى يعود رغيف الخبز باسماً ناضجاً؟ ألا يكفينا (التجهّم في السما) حتى يأتي رغيفنا متجهماً؟!

تراجع جودة الرغيف هل هو تمهيد لرفع سعره؟!

 تجاربنا مع التصريحات الحكومية التي تلامس شؤون حياتنا اليومية ومستلزماتها مؤلمة وكثيرة، ولذلك فإننا نتوجس (شيئاً) ما خلف تصريح السيد وزير التجارة الداخلية، المنشور صباح الأحد 22 آذار في الزميلة (الوطن) بخصوص رفع نسبة الاستخراج من القمح 15% دفعة واحدة، والذريعة التي قدمها السيد الوزير لذلك هي (الحد من تهريب الدقيق ومن المتاجرة به)، و(زيادة الإنتاج) بنسبة 15%. فإذا عطفنا هذا التصريح على تصريحه منذ شهرين، الذي جاء فيه أن الحكومة اتخذت قرارات رفع أسعار المشتقات والخبز (استجابة لمطالب المواطنين)، فإن الأمر يستدعي أن (نَصْفُنَ) قليلاً.. فوزراؤنا لا يصرّحون كثيراً للصحافة، وتصريحاتهم ليست من باب ممارسة الشفافية والصراحة مع المواطنين، بقدر ما هي نوع من (التمهيد) لقرارات (غير شعبية)!

يتذكر كثيرون مثل هذه التصريحات عندما بدأت حكومات سابقة (مسلسل) رفع أسعار المشتقات الذي مازال مستمراً.

لقد أثار تراجع جودة الرغيف، في الأسبوعين الأخيرين، على نطاق البلاد، ضجة، قد تدفع الحكومة إلى التأنّي، فيما لو كانت تفكر بقرار من نمط قرارات كانون الثاني، الماضي، التي كانت – حسب رأينا – (صادمة)! لأن الأمر -في ظروف استمرار الضغط والحصار والعقوبات الاقتصادية الجائرة- مرتبط بأمننا الغذائي أولاً، وباستمرار صمود شعبنا ثانياً، وثالثاً بإرساء أسس بناء سورية التي نريدها.

اقتصاد المجابهة – حسبما كتب الخبير الاقتصادي عبد القادر النيال في (النور) منذ شهر- (يتطلب تعزيز الثقة المتبادلة بين المواطنين والحكومة والنظام).

فهل ترى حكومتنا أن قرارها برفع نسبة الاستخراج إلى 95%، يعزز هذه الثقة (بين المواطنين والحكومة والنظام).. أم أنها تمهّد لقرار جديد برفع سعر الخبز الذي تجاوزت كثيراً على خطه الأحمر؟!

العدد 1140 - 22/01/2025