جشع بعض السوريين اليوم.. مكتسب أم أصيل؟
تميّز السوريون دائماً باللطف والمحبة والتعاون والكرم الذي يشهد به كل سائح أو زائر لأي مكان في سورية، كما تشهد به الحياة والعلاقات الاجتماعية بين السوريين أنفسهم.
إلاّ أن هذا الكلام فيه من العمومية ما لا يتوافق وحياة بعض الناس وطباعهم وأمزجتهم، فهؤلاء لا يحملون في أنفسهم حب التعاون ومبادلة الآخرين العطاء، وإنما يتصفون بجشع وطمع لا حدود له يدفعهم إلى أن يكونوا بخلاء حتى مع أقرب الناس إليهم، فكيف بآخرين لا تربطهم بهم أيّة علاقة اجتماعية أو صلة رحم..؟
الأزمة السورية اللعينة التي التهمت نيرانها أخلاقيات البشر كما التهمت حياتهم وممتلكاتهم، وبضمن ذلك استقرارهم وأمنهم، فتركتهم في مهب رياح التشتت والتشرّد والضياع والغربة حتى عن أنفسهم، يُقاسون شتى أنواع العذاب والقهر والحرمان دفعت بالبعض منهم مرغمين لممارسة سلوكيات وأخلاقيات قد تكون غريبة عنهم سابقاً، بسبب ضيق ذات اليد وندرة الخدمات المقدّمة إليهم في ظروفهم السيئة تلك، فبات الشجار والخصام مع الآخرين لأتفه الأسباب سمة شبه دائمة لدى الكثيرين، بحكم الضغط النفسي والمادي والروحي الذي خلقته ظروف الحرب التي لا تكاد تخمد نيرانها في مكان حتى تنشب من جديد في مكان آخر، وكأنه لا أمل لنا في الخلاص النهائي من تلك المأساة والمعاناة اليومية.
فمثلاً، تشهد الأفران يومياً مشاحنات وشجارات قد تصل إلى حدود إهراق الدم أحياناً بشكل غير معهود سابقاً رغم الأزمات الكثيرة السابقة التي تعرّض لها عموم السوريين، وذلك بسبب الازدحام المفتعل على تلك الأفران من قبل تجّار الخبز وبعض العاملين داخل تلك الأفران. كذلك تشهد الأحياء السكنية يومياً خلافات وشجارات يطول مداها أثناء وصول الماء المقنن إلى تلك الأحياء، بسبب استخدام البعض لمضخات تشفط كمية المياه كاملة على مدار الوقت، لملء خزانات إضافية لا حاجة لأصحابها بها، جشعاً وطمعاً وأنانية مفرطة، غير عابئين بحاجة الآخرين الماسة لها، والذين لا يحصلون على مثل تلك المضخات مثلما لا يملكون كمية المياه اللازمة لهم، وفوق كل هذا وذاك وصل سعر برميل المياه في بعض المناطق إلى أرقام غير معقولة وغير منطقية بسبب طمع أصحاب تلك الصهاريج وجشعهم، فقد وجدوا في الأزمة الراهنة مصدراً غنياً للكسب غير الأخلاقي، بحيث أصبحت نفقات الأسرة على المياه عبئاً ثقيلاً يُضاف إلى أعباء المعيشة الأخرى في ظل شح الموارد المالية، وتردي قيمة الرواتب والأجور إلى مستوياتها الدنيا.
أما في مجال النقل العام والخاص، فحدث ولا حرج عن الشجارات المتوالية بين السائق الذي يطمع بأجرة زائدة عن المنطق بحجة غلاء البنزين أو المازوت، والركاب المنتظرين زمناً ليس بالقليل ولا يجدون لهم مكاناً يصعدون إليه في تلك الحافلات، أو حتى بين الركاب أنفسهم، إذ ترى أشخاصاً يستخدمون وسائط النقل لمسافات بسيطة، وبذلك يزيدون من أزمة النقل والازدحام، وآخرين من الشباب الذين تدفعهم أنانيتهم ولا مبالاتهم وعدم احترامهم لكبير السن والمرأة لاسيما الحامل، إلى التشبث بمقاعدهم، وفوق ذلك قد يتحرشون أحياناً ببعض الفتيات والنساء في تلك الحافلات دون أي وازع من ضمير.
كما لا يفوتنا أن نذكر جشع أصحاب المكاتب العقارية أو المالكين الذين جعلوا بدلات الإيجار تحلّق عالياً، وكأننا في إحدى العواصم أو المدن الأوربية السياحية، مستغلين حاجة الناس الذين شردتهم الحرب وظروفهم، إضافة إلى غياب الرقابة الحكومية عن هذا الجانب كما سواه.
أيضاً، فقد سقطت الأقنعة عن الوجه الحقيقي للبعض، فمن كان من هؤلاء فيما مضى إنساناً محباً ومعطاءً، أظهر اليوم جشعاً وطمعاً وأنانية فاقت حدود الخيال، حتى تخالهم لا يملكون من صفات البشر أدناها، بل هم وحوش مفترسة يودون التهام كل ما يقعون عليه ولو كانوا بغير حاجة، على مختلف مستويات المعيشة والعلاقات الاجتماعية، وفي أفضل الأحوال تجدهم يتنكرون لكل علاقاتهم الاجتماعية وحتى الأسرية، عندما يصل الأمر إلى مستوى المصالح الشخصية، في ظروف قاسية تقتضي من الجميع التعاون والتكاتف والألفة من أجل التخفيف من حدتها ووحشيتها، فتجد الأب من هؤلاء يتنكر لأولاده الذين قد يكونون بأمسّ الحاجة لمساعدته التي باستطاعته تقديمها، أو يكون الأمر معكوساً فتجد أبناء مقتدرين يتنكرون لآبائهم في وقت هم بأمس الحاجة إلى من يمد لهم يد العون والمساعدة، بحكم العمر والظروف المريرة التي تعترضهم، والحالات التي نشهدها في مجتمع اليوم ليست قليلة، عن نساء تُركن وحيدات مع أطفالهن يواجهن مصيراً فظيعاً بعد استشهاد أو فقدان الابن، في ظل تنكر الأهل وإهمالهم المريع دون شفقة أو إحساس بالمسؤولية الأخلاقية والاجتماعية وحتى الدينية التي تفرض الإحسان للأيتام وذوي القربى.
طبعاً لكل ما ذكرناه من جشع وطمع الناس أسبابه الذاتية والموضوعية. فالأسباب الذاتية تتعلق بالتكوين النفسي والأخلاقي للشخص الذي يُبدي جشعاً وأنانية، لأنه أساساً لا يمتلك الشعور والإحساس بالمسؤولية تجاه الآخرين، إضافة إلى أنانيته المفرطة بشكل عام ودائم في الحياة، والتي تُقصيه عن روح التعاون والإيثار والمشاركة الوجدانية مع الآخرين في أفراحهم وفي أحزانهم ومآسيهم. أما الأسباب الموضوعية فتتعلق بالوضع السائد في المجتمع والدولة بسبب الحرب الدائرة، ونقص الخدمات أو انعدامها في كثير من المناطق بسبب التخريب الذي طال البُنى التحتية والمرافق العامة من ماء وكهرباء وما شابه، إضافة إلى تخلي الدولة عن قسم كبير من مسؤولياتها تجاه مواطنيها سواء على مستوى غلاء المعيشة الفاحش وترك السوق مفتوحاً على مصراعيه لتجّار جشعين وفاسدين همّهم الوحيد تكديس الأرباح واستغلال أزمات الناس دون أيّة مساءلة أو محاسبة، وفوق كل هذا الغلاء الذي شمل الخدمات التي تقدمها الدولة ذاتها مثل المواد الغذائية المدعومة والمقننة، أو رفع أسعار المياه والكهرباء والهاتف وسواها من خدمات يُفترض بالحكومة أن تتحمل العبء الأكبر منها خلال حرب أنهكت المواطن الذي لا حول له ولا قوة، لاسيما في ظل الغلاء الذي ذكرنا والبطالة المرعبة والتشرد وعدم الاستقرار وفقدان الأمن والأمان الضروريين لانتعاش الحياة بشكل عام.
بعد كل هذا، نحن للأسف، إذا طالت هذه الأزمة وتأخرت الحلول أكثر، سنكون أمام مجتمع مأزوم أخلاقياً ومادياً وروحياً، مجتمع متفسخ ومشتت لا يمكنه مع ما هو عليه النهوض مجدداً وبناء مستقبل يليق بإنسانية الإنسان على المدى المنظور، مجتمع يحتاج إلى المعالجة وإعادة التأهيل على المستويات كافة، وما على من بقي لديهم إحساس بالمسؤولية الأخلاقية والإنسانية، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الحكومة ومنظمات المجتمع المدني، إلاّ أن يتحمّلوا العبء الأكبر في مد يد العون والمساعدة من أجل إعادة بناء الفرد والمجتمع والوطن.