مضاحكات

هل من المُستغرب أن تسائل (النكتة) ذاتها ترى ما الذي يضحكني بعدما شُغلت بإضحاك الناس على اختلاف مشاربهم واستجابتهم لي، على اختلاف أوقاتهم الذاهبة إلى الضجر أو السأم بما ليس لي، عجبت وأنا أسير في ضوء آلامهم، كيف يضحكون من قلوبهم وأضحك معهم، انسى متاعبي بصناعة الفكاهة لهم حتى أسرقهم من عوالمهم الغارقة في الأسى حد الضحك، لاسيما ذلك الرجل في أقصى الحديقة من دُهش من فردتي حذاء لبسهما على عجل، واعتقد أن من يشاركه فيهما رجل آخر، فتساءل هل أنا إثنان في واحد، ومضى يكلّم نفسه دونما انقطاع، ومن يحسبه يكلم ذاته على هذه الشاكلة يعتقد أن لديه هاتفاً نقالاً يتحدث فيه دونما حساب للوقت أيضاً. فالدقائق مهدورة كما الثواني، والأعمار التي لا شأن لنا بها ذلك هو شأن الانتظار فحسب، أو تلك المرأة التي تسعى لجمع ثمن فاتورة الدواء منذ سنين خلت، وكأنني بها ستشتري مشفى يعالج فيه الفقراء جميعاً، دون أن يتكلفوا قرشاً واحداً، لكن فاتورتها لم تكتمل حتى الساعة، يبدو أن المشفى مازالت قيد الانجاز تنتظر عمالها الذين آثروا الرحيل إلى مدن الضباب، أولئك الذين ركبوا البحر متثاقلين وكأن البحر صفحتهم الأخيرة ليدونوا عليها لحظات وجودهم وهم يصارعون القراصنة وقرش البحر على حد سواء، فمن نجا هبط اليابسة بسلام توقاً لشمس لا تغيب، وإن لم يجدها أو أنها أشرقت في غير بلاد، على استحياء كان عزاؤهم الوحيد أنهم مازلوا يحتفظون بالشمس في دواخلهم المتعبة المرهقة.

أو أولئك المشاؤون الذين لا حيلة لهم في الدخول لموسوعة (غنس) للأرقام القياسية في انتظار الحافلات وأمزجة سائقيها، من فضلوا امتطاء أرجلهم، ومنهم من امتطى دراجة عادية يخوض بها كالخائض في بحر لا ينتهي، إنه سباق المسافات، فهل كان الروائي الراحل عبد الرحمن منيف على حق حينما كتب روايته الأثيرة «سباق المسافات الطويلة» ليدشن بها قرناً جديداً من سباق الوقت والمسافات وانتظار الرغيف والضوء؟

وأنا أتساءل بيني وبيني ترى هل أنا في سباق مع الوقت كذلك لأرى تأثير الفكاهة على قومي المتعبين؟ خصوصاً أهل النكتة وسادنيها، من برعوا في اختراعها لأكف عن صناعتها، ولكن هيهات هيهات، صرت أجتر نفسي لأضحكهم وأنتشلهم من قيعان واقعهم، فيضحكون بتسارع محسوب ثم ينسون ليتذكرهم الواقع (بظرافته) وخفتها التي لا تحتمل، فهو قد أصبح في قبالة (نكتة) أخرى، أو لنقل مجموعة منها قد لا يتسع لها قاموس الظرافة العربية (وفن تخفيف الدم) في الأوقات الحالكة، أن أضحك أنا فتلك مهمة سهلة، لكن أن أُضحك غيري بما أجترحه بإضافة نكهة الخيال ودغدغة ما خُفي من مشاعر، فتلك والله معجزة، أو لعلها العجيبة الثامنة بعد العجائب السبعة الشهيرة.

ثمة امرؤ  أراد أن يضحكني فاجتر من النكات ما أعرفه، فقط أضحكتني طريقته في الاستذكار ونسيانه ما يضحك، ليخرجّها بطريقة مأساوية.

 عجباً فهل يجتمع الضدان؟

 لطالما كانت الحياة مركباً هائلاً من الأضداد المتقابلة ومن المرايا التي لا ترى ذاتها أيضاً، وما ينعكس على سطوحها الثقيلة من وجوه بلا ملامح، وجوه عابرة في زُحام طويل، يقف لها الموت بالمرصاد ليصطادها على مهل شهيته، وأسمح لنفسي بمقايسة على قصيدة الشاعر بدر شاكر السياب حينما قال: مطر مطر، لأقول موت، ومن تراه ينتظر، حتى أصبح الموت صديقاً للمبدعين ورفيقاً يأخذ بيده وعنده لا فرق بين كاتب أو فنان أو مجرد إنسان عادي، فكلهم سواء، ولعلهم سيجتمعون يوماً في مكان ما ليناقشوا أحوالنا، ويتأملون مصيرنا نحن الأرضيين، علهم يصلون إلى نتائج لا نعرفها، يرسلونها في البرق والمطر!

شئت أن أذهب في تسوية جديدة (مُضاحكات) ربما تفعيلاً للضحك في آخر الوقت فمن يجرؤ على الضحك وقد استُنفد  من كل قواميسه ليُخترع له ما يوازي ضحكاً كان يوماً بريئاً وخفيفاً كنسمة لا متجهماً كما الأيام، التي ليس بوسعنا أن نحصي فيها ما الذي لا يضحكنا جميعاً، لنفرّ من ذاكرة قريبة ما يشبه الهروب أماماً ونتكئ في برهات معدودات على ماضٍ بعيد لطالما اتُهمنا بأننا لانزال ما ضويين، ولمَ لا؟ فنحن من جئنا منه وربما نعود إليه.

العدد 1140 - 22/01/2025