هل من الممكن تعليم القيم والاتجاهات؟!
يؤكد جميع الأخصائيين التّربويين بأنّ الاتجاهات والقيم ركائز لا غنى عنها في تماسك المجتمع وتقدمه، لأنّ انحطاطها يؤدي إلى انهيار وحدة الأهداف الاجتماعيّة، لذلك يرى فيها علماء الأخلاق طبيعة ثانية للإنسان، لأنّها في معظم الأحيان تعبير عن عوامل مشتركة بين أفراد الجماعة الإنسانية، لأنّها تتعلق بأفكار النّاس ومعتقداتهم وعاداتهم وطرائق عيشهم ونظرتهم إلى المستقبل وتقويمهم للماضي والحاضر.
لكنّ ذلك لا يعني جمودها، بل إنها في تتطور وتغيير مستمرين، لأنّها ليست منفصلة عن عوامل المحيط الطّبيعي والاجتماعي للكائن البشري، لكن وراء تطورها جملة من العوامل السياسية والاجتماعيّة، لذلك تشهد المجتمعات دائماً ولادة مستمرة للقيم واندثار قيم قديمة أو تطوّرها.
وبما أننا نعيش في عصر التّغيرات السّريعة، فإنّ مسألة القيم هي إحدى أهم وأكبر المشكلات الأخلاقية الّتي تعاني منها المجتمعات البشرية، أمّا بالنسبة للبلدان النامية فتتجلى المشكلة في أنّها تتلقى نتاج الحضارة المعاصرة ولا تسهم فيها إلاّ بشكلٍّ بسيط جداً، فهي منفعلة بالحضارة الحديثة وليست فاعلة، مقلدة وليست مبدعة، لأنّها تتعامل مع النتاج المادي لهذا العصر الّذي يتصف بالتّفجير العلمي والتّقني بعقلية وباتجاهات سلوكية لا تناسبه ولا تسعفه في تحقيق التّوازن النّفسي الّذي يضمن للشخص فيه حياة نفسية متزنة.
كيف يتم اكتساب الاتجاهات والقيم؟!
من الضّروري التّأكيد بأنّ تكوين القيم والاتجاهات لا يقتصر على الأسرة، وإنما تشاركها في ذلك جماعات أخرى يدخل الطّفل في عضويتها، ويحتك بها عن طريق اللّعب أو العمل. ومنه فإنّ قيم الطّفل واتجاهاته وضميره وشخصيته تتكوّن بالاحتكاك بالآخرين، وينطبق ذلك على أساليبه في الأخذ والعطاء، وفي تكوين فكرته عن ذاته وقدراته، وتتكوّن له تصوّرات عما يرتبط بكرامته. وللتربية الرّسميّة الّتي هي نوع من أنواع الاتصال المنظم أهداف محددة ودورها واضح في عمليه تعليم الاتجاهات والقيم، ويخضع ذلك التّعلّم لعدد من الأمور الّتي تتصل بنظريات التّعلّم الآتية:
1. نظرية الإشراط الوسيلي: وهو إكساب المتعلّم عادات مرغوبة، وذلك بإقران المثير المؤدي إلى سلوك مطلوب بمثير نريد للمتعلّم أن يستجيب له بذلك السّلوك نفسه. فعندما يقترن موضوع ما في أثناء موقف من المواقف بمثير سار يكتسب الفرد إزاءه اتجاهاً إيجابياً، ينجذب إليه ويقوم بسلوك الإقدام نحوه، وعلى العكس من ذلك إذا اقترن موضوع آخر في موقف من المواقف بمثير غير سار فإنّ الفرد يكتسب إزاءه آنذاك، اتجاهاً سلبياً، فينفر منه ويبعد عن ذلك بسلوك الإحجام عنه.
ويجد المهتمون بالصّحّة النّفسية في عملية الإشراط الوسيلي مدخلاً لمعالجة بعض العادات السّيئة وفي اكتساب اتجاهات جديدة تؤدي إلى خلخة نظام القيم القديم بغية تعديله.
2. نظرية الإشراط الإجرائي: وذلك من خلال توظيف التّعزيز الّذي يتم بعد الاستجابة الشّرطية ليدعمها، والمعززات الّتي قد يكون لها التّأثير الفعّال – حسب هذه النّظرية – في تشكيل السّلوك، يكون بعضها واضحاً كأن يكون مكافأة مادية مثلاً، وبعضها يكون متضمناً في العلاقات
الاجتماعيّة المعقدة، فالانتباه والاستحسان الاجتماعي والتّقدير من الأشخاص الّذين يعملون كمصدر للتعزيز مثل الوالدين والأشخاص المحبوبين يمثل في أغلب الأحيان تعزيزات معممة قوية.
وفي تعلّم القيم يكون من المناسب أن يتم تعزيز السّلوك الّذي يبدر من المتعلّم والّذي يتفّق مع الاتجاه أو القيمة الّتي نريد تعليمها له في كلّ مرة تصدر عنه الاستجابة المطلوبة، ويكون التّعزيز في بداية التّعلّم سخياً، ومع تقدمه نقلل منه شيئاً فشيئاً كي نضمن تكرار الاستجابة فترة أطول.
3. نظرية التّعلم بالملاحظة أو بالنّموذج: تقول هذه النّظرية بأنّ النّاس يتعلمون من ملاحظة الآخرين والأحداث، فما نعرفه ونفعله يتوقف على ما نراه ونسمعه ونقرؤه دون أن نتلقى تعزيزاً مباشراً خارجياً لأفعالنا. فملاحظة ما يحصل عليه غيرنا من نواتج تدفع إلى تعلّمنا.
وهذا ما أكده تولستوي في أهمية دور المعلّم كقدوة في تعليم القيم والاتجاهات: (الطّفل في مراقبته للكبار، يتعلّم بشكلّ فعّال أكثر بمئة مرة من الإرشادات وأفصحها وأعقلها).
وقد أشار ميكارنكو إلى ذلك أيضاً بقوله: (لا تظنوا أنّكم تربون الطّفل عندما تتحدثون إليه فحسب، أو ترشدونه أو توجهونه، بل إنكم تربونه في كلّ لحظة من حياتكم حتّى حين لا تكونون في البيت، ومما له أهمية كبيرة للطفل هو كيف تلبسون، وكيف تتحدثون مع الآخرين وعن الآخرين، وكيف تسرون، وكيف تعاملون الأصدقاء والأعداء، وكيف تضحكون وكيف تقرؤون الجريدة).
وكنتيجة لما سبق عندما يحبّ المتعلّم شيئاً أو شخصاً أو فكرة، أو يكرهها، إنما هو نتاج من نتاجات التّعلّم، كما أنّ تقدير أمر ما وموازنته نتاج تعلّمي أيضاً.
يبقى السّؤال ما هي الوسائل والأدوات الّتي تساعد في تعلّم الاتجاهات والقيم؟!!
يبدأ تعلّم الاتجاهات والقيم منذ مراحل الطّفولة الأولى من خلال عملية التّأهيل الاجتماعي، ويستمر طيلة الحياة، وهو يتم بصورة مقصودة من خلال المناهج المدرسيّة والأهداف الّتي ترمي لها وسائل الإعلام المختلفة، وفيما يلي بعض الأساليب المفيدة في ذلك التّعلّم:
1. إنّ تربية الاتجاهات والقيم مسؤولية اجتماعيّة لذلك لوسائل الاتصال والإعلام مثل التلفاز بما فيها برامج الأطفال أهمية في زرع القيم والتّعابير والأفكار الّتي نرغب في أن ينشأ عليها الطّفل. لذلك من الضّروري أن تتم توعية الأطفال بشأن استخدام وسائل الاتصال بما فيها الشّابكة الالكترونية والجوّال، وأن يتم تحديد وقت لاستخدام مثل هذه الوسائل وبإشراف من الكبار. والاهتمام ببرامج الأطفال بشكلّ أكبر والعمل على إنتاج برامج محلية تعمل على نقل الثّقافية المحلية للمجتمع الذّي يعيش فيه الطّفل، وليس استيراد ثقافات وأفكار غريبة عن بيئة الطّفل، لأن ذلك يؤدي إلى تبني الطّفل مواقف وأفكاراً لا تمت له بصلة، وبالتّالي تبعده عن قضايا ومشاكل بيئته المحلية، وتجعله يرفض مجتمعه، وتعمل على تفتيت النّسيج الاجتماعي ضمن المجتمع الواحد.
2. إنّ نشاط الفرد مرتبط بحكم طبيعته الاجتماعيّة بالمجتمع، لذلك يميل إلى ملائمة نشاطه مع ما يرضي الجماعة، ومع ما ينسجم مع أحكامها.
لذلك فإنّ ما يتعلّمه الطّفل من خلال النّشاط المتمثل في المشاركة في حياة الجماعة يثير فيه دوافع معينة ويقويها. أيّ أنّ ذلك يؤدي إلى تكوين اتجاهات نفسية معينة لديه توّجه سلوكه.
لذلك من المفيد أن تخطط المدرسة للأنشطة الجماعية، وتعد لها الوسائل المناسبة. لأن اشتراك الأفراد مع الجماعة يوفر له أحسن ظروف التّعلّم الّذي يؤدي إلى تمثل معانٍ وقيم مشتركة، وتعمل على إبعاده عن القيم غير المرغوب قيها والّتي تكرس قيم التّخلف كالعشائرية والطائفية والإقليمية، والقيم الّتي تعتمد الخرافة والغيبيات ولا تحترم المرأة والعمل اليدوي، إلخ.
3. تعلّم الاتجاهات والقيم بوساطة العمل، حيث أكّد بافلوف: على أنّ العمل العضلي يحرك مشاعر أقوى من اللّذة الّتي يمكن أن نحصل عليها من العمل العقلي. الأمر الّذي يقتضي توحيد الرّأس باليدين، كما أن اللّجوء إلى العمل العضلي يقوّي الكائن الحيّ ويجعله أكثر قابلية وقوّة على الحياة. ولخص /ميكارنكو/ ذلك بقوله: تعمل أهداف العمل على تشكيل الوعي الاجتماعي والانضباط الواعي والاشتراكي.
4. ليس كافياً أن تكون المناهج الوطنية مزودة بمادّة تعلّم الاتجاهات والقيم كالتّربية الوطنية أو مادّة الاجتماعيّة لتحقيق ما يصبو إليه كلّ مجتمع في تكوين الاتجاهات والقيم الّتي تنسجم مع أهدافه التّربوية العامة.
بل إنّ ذلك يتم من خلال تربية شاملة لا تهتم بالنّواحي العقلية فحسب، وإنما بالإنسان من كافة جوانبه، لذلك فإنّ المناهج الوظيفية الّتي لا تعتمد الفصل المطلق بين المواد المكوّنة لها، بل تعمل على توجيه كلّ تعلّم نحو تكوين القيم والاتجاهات المرغوبة، ويكون ذلك في النّصّ الإملائي ونص المسألة الرّياضية والأمثلة النّحوية وفي جمل الإعراب، وتدخل في مواد التّاريخ والجغرافيا ومعرفة الأدب والنّتاج الفني الّذي يرى فيه /أويير/ خير الوسائل للتربية السّياسية.
5. يتصل تعلّم الاتجاهات والقيم بالمحبّة، ويتجلّى ذلك بقدرة المتعلّم على الحبّ بمعناه الشّامل والواسع لأنّه يرتبط بقدرته على بناء علاقات صحيحة مع الآخرين وفهمهم.
أخيراً
إنّ الفترة ما بين السّادسة والثّانية عشرة من عمر الطّفل هي أهم فترة في تكوين الاتجاهات لديه، كما أنّ للمناهج المدرسية ونظامها وطرائق التّدريس فيها دوره في زرع تلك الاتجاهات والتّوجهات، لكنّ الأهم من ذلك هو شخصية المعلّم الّتي تلعب دور المنفر أو الجاذب لاتجاه من الاتجاهات أو لقيمة من القيم، فثقافة المعلّم ومظهره الخارجي والطّرائق الّتي يستخدمها وأساليب التّعامل الّتي يمارسها مع المتعلمين هي عناصر أشد أهمية وأبعد خطراً من كلّ تقدّم، لذلك من الضّروري أن تهتم سياستنا التّربوية اليوم بدعم المعلّم من كافة الجوانب وأن تعمل على إعداده بشكلّ يليق مع تطور الطّفل المعرفي والاجتماعيّ.
المصادر والمراجع:
تعلّم الطّفل – اسماعيل ملحم، مقدمة في العلوم السلوكية / دار الجليل، دمشق 1981م – حامد ربيع، المدارس الحديثة – بول فولكييه
مجلة عالم الفكر 13 – الشّخصية السّوية، القيم وأثرها – مجلة التّربية العدد 72، أحاديث عن تربية الأطفال – دار التّقدم 1977م.